تتفشى في المجتمعات اللبنانية مؤخراً، ظاهرة الصناعات المنزلية اليدوية، المعروضة كمنتجات استهلاكية عبر صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، أو ما يعرف عالمياً أيضاً بالـmicro business والذي تبحث من خلاله السيدات خصوصاً عن مصادر دخل إضافية عبر صناعات “حرفية”، قيمتها المضافة هي في فرادة المنتج المقدم، الدقة والذوق والفن الذي يعكسه، إلى جانب الجهد الذهني والجسدي التي يتطلبه.
ليست هذه الظاهرة حكراً على لبنان، بل تعددت منذ فترة الحجر الصحي الذي فرضته جائحة كورونا خصوصاً، عبر صفحات وسائل التواصل الاجتماعي التي تعرض كمّا كبيراً من الصناعات المنزلية المستدامة، حيث شكّلت الخبرات العالمية المعروضة عليها منصة تسمح بتنوع الإطلاعات بالنسبة للمهتمين بهذا العالم. إلا أن الظاهرة في لبنان اقترنت خصوصاً بالأزمة الاقتصادية الأخيرة، التي شكّلت حافزاً بالنسبة لبعض السيدات الموهوبات لعرض إبتكارات توازي بجودتها أهمية المنتجات المستوردة، وتتناسب في الوقت نفسه مع القدرة الشرائية المتراجعة للبنانيين. وكان هذا التوجه نحو الـmicro business فرصتهن للتغلب على البطالة أو حتى لتأمين مصدر دخل إضافي يسند رواتب الوظائف المتهالكة.
ولكن، كما أن الواقع الاقتصادي في لبنان كان دافعاً لإزدهار ما يعرف بالـhome made product أو المنتجات المصنّعة منزلياً، فقد شكل أيضاً سبباً لتراجع القدرة التسويقية لبعض هذه المنتجات، وخصوصاً تلك الغذائية، والتي تكون أرباحها عادة محدودة، وتقترن الجدوى الاقتصادية المحقّقة منها بتعدد الطلبات وتقاربها وأحجامها. فاختفت بعض الحرف المخضرمة، وجاهدت أخرى للاستمرار، ولكن بقيت كلّها تختزن قصص سيدات ملهمات نجحن في انتزاع الفرصة من الأزمة، ولم تستسلمن أمام الصعوبات التي واجهنها في الحياة.
وفيما يلي بعض هذه التجارب المخضرمة والحديثة.
الست مرصبان
عندما نتحدث عن صناعة المرصبان أو الـmarzipan وهو نوع من أنواع الحلويات السكرية المصنعة من معجونة اللوز، يتجه التفكير عادة إلى راهبات “الذوق” اللواتي يشتهرن بصناعته. ولكن للمرصبان في زحلة قصة أخرى وشكلاً وطعماً آخرين.
بدأت قصة ديزيريه إسطفان الخياط مع المرصبان منذ أكثر من 30 سنة. كوالدة لخمسة أولاد اضطرتها الظروف لتأمين رعايتهم، كانت ديزيريه تستثمر بموهبتها في الفن لتأمين مصدر دخل يعيلهم.. إلى أن استفزت موهبتها خلطة اللوز مع السكر وماء الزهر التي تعرّفت إليها كضيافة بينما كانت تقيم في بسكنتا. ووجدت فيها فرصة لتأمين مصدر دخل من دون أن تضطر لمغادرة المنزل وترك أطفالها وحدهم لفترة طويلة. فمضت بأفكارها حول ما يمكن أن تنحته في هذه المعجونة من موديلات، إلى أن أصبح تطبيق هذه الموديلات مصدر سعادتها وافتخارها.
غير أن وصفة هذه الخلطة ومقاديرها لم تكن حينها متاحة، حيث كان تحضير المرصبان محصورا براهبات الذوق الذين يقدمون الحلوى مجففة في الفرن وبأشكال محدودة. ولأنها سيدة “حشورة” -كما تقول إبنتها دانييل- بقيت تبحث عن الوصفة، إلى أن وجدتها لدى أحد صانعي الحلوى. قدّم لها الأخير المقادير التي يعرفها، وأخرجت منها هي خلطتها الخاصة لطعم “المرصبان” الذي بات يعرف بإسمها وتعرف هي بإسمه.
من بيتها في زحلة حيث تملك المعدات اللازمة لخلط اللوز والسكر، انتقلت ديزيريه من طور التعلم والاستكشاف إلى طور التطبيق والانتشار. ولم تضف إلى أدوات الخلط أي قطعة إضافية، ولا حتى قالباً واحداً يسهّل عليها المهمة، بل اعتبرت كل حبة مرصبان، قطعة فنية محملّة بتحديات ترجمة الأفكار غير السهلة التي يتطلبها الزبائن، وتفاصيلها الصغيرة التي تستغرق وقتاً وتعباً وجهداً، لتأتي النتيجة مبهرة، تبهج النظر وترضي حاسة الذوق.
كما خلطتها الأولى التي أعدتها لضيافتها المنزلية، لا تستخدم ديزيريه حتى اليوم سوى أجود أنواع اللوز الأميركي الدسم كما تقول، أو ذلك الذي يدخل في حبة الملبس، ولا تشتريه مقشراً خوفاً من أن يكون قديماً أو تسلل إليه الغبار، كما أنها تطحن السكر منزلياً لتتأكد من جودته، ومصدرها لماء الزهر واحد منذ البداية، وهو مصنّع لاستخدامات غير تجارية.
وهذا الحرص على نوعية المواد المستخدمة يترجم أيضاً بدقة التنفيذ، حيث تصر ديزيريه على أن تكون كل حبة متجانسة تماماً مع الأخرى، ولذلك تنحت كل حبة مرصبان بيدها، وتتعامل معها كما تقول كأنها واحد من أبنائها، “وأنا لا أقبل أن يكون أحد أولادي أقل كمالاً”. ومن هنا لا تحبذ تعدد الأيدي في تحضير الطلبية “لا يوجد يد تعمل كالأخرى”، وإن إستعانت أحياناً عند تكاثر الطلبيات بأيدي بناتها اللواتي اكتسبن منها الموهبة.
تعرفت محلات الشوكولا الفاخرة إلى مرصبان ديزيريه، فعرضت عليها وظيفة ثابتة لاحتكار منتجاتها، ولكنها فضلّت أن تؤمن لها طلباتها بشكل حر. إدعى أحد أصحاب المحلات التي تعاونت معها، أنه يستورد المرصبان من إيطاليا، إلى أن إكتشفوا أن مرصبان إيطاليا مصدره مطبخ ديزيريه في حي البربارة بزحلة. وهكذا توسّعت شبكة الراغبين بمرصبان ديزيريه، حتى أصبحت مقصدا للزبائن في مختلف المناسبات، فأعطت كل مناسبة موديلاً.
الوضع الاقتصادي الذي يعيشه اللبنانيون ترك أثره على كمية الطلبات وتواصلها، خصوصا أن معظم الناس اتجهت إلى التقنين في مناسباتها. إلا أن مرصبان ديزيريه شق طريقه أيضاً إلى الخارج مع جيل الشباب، فسافر إلى فرنسا وأفريقيا ودول الخليج وصولاً إلى أميركا وأستراليا. وكان نجماً في أحد المعارض التي نظمت بباريس للمنتوجات اللبنانية. وهكذا تمازح ديزيريه عارفيها بالقول “مرصباناتي برموا العالم وأنا باقية بحي البربارة في زحلة”.
صناعة الجزادين مع أستاذة الجامعة اللبنانية
تجد رانيا أبي عازار عراجي بالمقابل، الرضا الشخصي والسعادة في Melagrana boutic. مع أن الـslow fashion أو الـsustainable fashion لا يتناسب مع الذهنية الاستهلاكية الللبنانية التي تبحث عن الموضة وسرعة تبدلها، اقتحمت الأستاذة المحاضرة في الجامعة اللبنانية هذا العالم في أسوأ مرحلة اقتصادية يمر بها لبنان.
صفحة Melagrana boutic التابعة لرانيا على وسائل التواصل الاجتماعي موجودة منذ سنوات طويلة، إلا أنها لم تنشط سوى قبل فترة قصيرة، عندما بدأت رانيا تعرض “شغلها اليدوي” لمنتجات الكروشيه، والذي يتميز خصوصاً بصناعة حقائب السيدات إلى صناعة الملبوسات.
بدأت القصة بالنسبة لرانيا كهواية وشغف بعالم الكروشيه منذ الصغر، ولكنها لم تتعلم مَسك السنارة إلا من خلال صديقة لها قبل عشر سنوات، لتقودها حشريتها بهذا العالم إلى صفحاته الخاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي اطّلعت من خلالها على أحدث صيحات الموضة في عالم الكروشيه.
في البداية كانت كل قطعة تشتغلها لمنزلها أو للهدايا، وكانت تضعها على صفحة Melagrana طمعاً باللايكات. ولم يخطر لها أن مدخولها من هذا العمل سيوازي راتبها الجامعي في مرحلة من المراحل، وخصوصا عندما تدهورت قيمة هذا الراتب.
كانت نقطة التحول بالنسبة لـMelagrana في فترة الحجر الصحي الذي فرضه انتشار وباء كورونا. تقول رانيا “كنت أشعر بملل كبير، بوقت كنت أتابع عبر وسائل التواصل تحوّل الصناعة اليدوية موضة عالمية. استفزتني شقيقتي تحديداً بصور عن أشغال الكروشيه التي كانت ترسلها إلي من إيطاليا، وقررت أن أعود إلى سنّارتي مجدداً”.
كان أول جزدان (حقيبة يد) صممته ونفذته لشقيقتها. والجزدان جرّ آخر، لتتفاجأ بتكاثر الطلبات على منتجها مع الأيام. إلى جانب المدخول المادي الذي وفّره بيع جزادينها، اعتبرت رانيا أن بيعه عكس تقديراً إضافياً لعملها، كما أنه وسّع دائرة التعرف إلى أعمالها، التي ستطال أشخاصاً خارج دائرة معارفها.
وهكذا حصل فعلاً. توسع عمل رانيا في الفترة الأخيرة إلى درجة اضطرارها للإستعانة بأيدي سيدات أخريات كلفتهن بجزء من العمل في منازلهن، بعد أن تضع هي التصميم، مع حرصها على إنهاء كل قطعة باللمسات التي ميزتها. ومن هواية صارت المسألة بيزنس يحتاج إلى حسابات أخرى وطريقة تفكير لا توقعها بالخسارة. وكلها مسائل اكتسبتها مع الخبرة.
تشير رانيا إلى أن الوضع الاقتصادي قد يكون عاملاً مشجعاً على تطور موضة الصناعات اليديوية أو المنزلية في لبنان، إلى جانب ظروف الحجر الصحي التي فرضتها جائحة كورونا عالمياً. فهو من ناحية جعل البعض يتجه إلى إبتكار بدائل منزلية عن المنتجات المستوردة، ومن ناحية ثانية شجّع المستهلكين على الإقبال على هذه المنتجات التي تتناسب بشكل أفضل مع القدرات الشرائية.
وبالنسبة لها قيمة العمل اليدوي في مجال الموضة هو في فرادة القطعة التي تقدمها، لأنه مهما حاول البعض أن ينسخ موديلاً معيناً، لن يكون نسخة مطابقة. كما أن كل قطعة ستتميز بنوعية المواد المستخدمة في الصناعة، وفي كلاسيكيتها، التي تجعل البعض يدفع ثمنها غالياً لعلمه بأنها قطعة لن تفنى مهما طال الزمن.
ومن هنا لا تمانع رانيا أن تتعدد الأيدي العاملة في الصناعات المنزلية، وحتى لو قدمت المنتج نفسه، فهذا برأيها يخلق روحاً تنافسية تضيف جودة إلى الصناعات. علّ هذه التنافسية تقود مستقبلاً للتخلي عن مقولة “كل شي افرنجي برنجي”.
أما بالنسبة لها، فهذا العمل يوازي بأهميته عملها الثقافي. وهي متصالحة مع نفسها من خلال ممارسته. مؤكدة أن “المسألة محلولة بالنسبة لي، وأنا لست من السيدات اللواتي تهتم ببرستيج الوظيفة. ولذلك لم أتأثر كثيراً بالتنميط المجتمعي الذي ينتقدني أحياناً لكوني دكتورة في الجامعة وأشتغل الكروشيه. فهذه هواية تنقلني ممارستها باحتراف إلى جو آخر. وأنا أحترم وأقدر العمل اليدوي، بقدر احترامي لعملي الذهني”.
طعام صحي للحيوانات المنزلية
ميريتا معلوف شمعون في المقابل لم تقتحم عالم الـhome made سوى قبل أشهر قليلة. ولكنها اختارت منتجاً يحتاج لجرأة وجهد أكبر لتسويقه. تحت إسمpea.nut shop الموجود على وسائل التواصل الاجتماعي، تسوق ميريتا لـ treatخاص بالكلاب والهرر، ذاك الذي يعطى كمكافأة لها عندما تحسن التصرف، إلى جانب قوالب الحلوى الخاصة بها والخالية من السكريات، وعند التوصية الأطقم والملابس.
هي امرأة عاملة، وربة عائلة. يضيف تحضير الطعام للكلاب خصوصاً بهجة لحياتها، ولا مانع لديها بأن تؤمن الطلبات وتعدّها ولو في أوقات فراغها المحدودة. ولأنها متابعة جيدة لكل ما تحبه الكلاب وما يحافظ على صحتها، قررت ميريتا أن تبهج الحيوانات وأصحابها بمنتجها.
قد يبدو صعباً اختيار هذا المنتج وتسويقه بظل الواقع الاقتصادي الذي يجعل الناس تقتصد حتى في طعامها. ولكن ميريتا تعتبر أنه عندما يقتني أحدهم كلباً أو هرة، يصبحان فرداً إضافياً في العائلة، وعلى من يربي الحيوانات المنزلية أن يعتني بطعامها وصحتها وتفاصيل حياتها.
وطموح ميريتا فيما يتعلق بالإعتناء بالحيوانات أكبر بكثير. ولديها أفكار عديدة حول خلق تجمعات متكاملة تعنى برفاهيتها، وخصوصا بالنسبة للكلاب. وإلى أن تتحقق طموحاتها، اختارت الانطلاق من مطبخها.
وكما سائر من يمتهنون الصناعات المنزلية تتابع بشغف كل المواقع التي تعنى بالحيوانات، وتقوم بأبحاث دائمة حول السبل الأفضل لتقديم منتجها. وتحرص على أن يكون مصنعاً من مواد طبيعية، ومن دون إضافات تؤذي صحتها.
ويشير إقتناء ميريتا للأواني والقوالب التي ستحتاجها، إلى جانب اهتمامها بالتغليف، أن اختيارها لمنتجها ليس مجرد نزوة مرحلية.
على رغم محدودية عدد زبائنها حتى الآن، تفرح ميريتا للتعليقات التي تحصل عليها، ولكن فرحها الأكبر عندما ترى الكلاب والهرر تلتهم مأكولتها بشهية. وتصر في المقابل على سماع التعليقات والملاحظات السلبية حتى تحسّن من نوعية منتجها وتحافظ على استدامته مستقبلاً.