تتعاظم حالة القلق في أروقة قصور العدل اللبنانية، الناجمة عن تطوّرات ملف الفساد، والتي تطال عدداً لا يستهان به من القضاة، في سابقة غير معهودة بتاريخ السلطة الثالثة. إذ أنها المرّة الأولى التي يُكفّ فيها يد أربعة قضاة ووقفهم عن ممارسة مهامهم دفعة واحدة، فيما لا يزال آخرون يخضعون للتحقيق أمام هيئة التفتيش القضائي، ويترقبون ماهية القرارات التي ستصدر بحقّهم. لكنّ المفارقة أن ملفات هؤلاء القضاة، تأسست بناء على تحقيقات أجرتها شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي، واستندت إلى أدلة ووثائق، جعلت من الصعب على القاضي المشتبه به، أن يفلت من التهم المنسوبة إليه.
إجراءات تأديبية
سبحة الملاحقات ووقف قضاة عن العمل تكرّ بسرعة، فقد كشفت مصادر مطلعة لـ”المدن” أن هيئة التفتيش القضائي “استجوبت يوم الأربعاء قاضيين أحدهما في مركز حساس”. ورجّحت أن “يلقى هذان القاضيان مصير زملائهم الأربعة، الذين أحيلوا على المجلس التأديبي. وصدر قرار عن وزير العدل بتجميد مهامهم بناء على توصية التفتيش القضائي حين صدور القرار النهائي للتأديب”.
وتسود البلبلة أوساط قضاة تحوم حولهم شبهات. وهؤلاء بدأوا يتحسسون رقابهم. ويخشون أن تطالهم مقصلة الإجراءات التأديبية. لكنّ ذلك لا يعني أن هذه الظاهرة معممة على قضاة لبنان، لأن غالبيتهم يتمتعون بالنزاهة والاستقامة. وأوضحت مصادر قضائية معنية بهذه الإجراءات لـ”المدن” أن “المراجع القضائية ترفض الإساءة إلى القضاء اللبناني وضرب مصداقيته أمام الرأي العام، لكنها في الوقت نفسه مصممة على تطهير القضاء من الفاسدين”. وأكدت أن “لا خلفية انتقامية تجاه أي قاضٍ يجري إحالته على المجلس التأديبي، طالما أن الاجراءات تستند إلى أدلة ومعطيات ثابتة”، كاشفة أنه “بعد إحالة أربعة قضاة على المجلس التأديبي، هناك خمسة آخرون يخضعون للتحقيق المسلكي أمام التفتيش”.
ضباط ومرافقو قضاة تهاووا
وأوضحت المصادر المتابعة لتطورات هذه القضية، أن التفتيش القضائي لم تكن لديه أية معطيات حول القضاة الذين تحوم حولهم الشبهات، أو الذين باتوا موضع اتهام، وأشارت أن توقيف عناصر أمنية لتورطهم في حجب أسماء مطلوبين للعدالة عن النشرة الجرمية، كانت بمثابة الـ”دومينو” الذي تهاوى معه ضباط وعناصر أمن ومرافقو قضاة ومساعدون قضائيون ومحامون وأطباء ومدنيون، وصولاً إلى القضاة الذين شملتهم الملاحقات، مشيرة إلى أن الدور الأهم في هذه السلسلة المترابطة تعود إلى “السماسرة” الذين شكلوا حلقة الوصل بين المطلوبين للعدالة من جهة، والقضاة والمساعدين القضائيين وعناصر الأمن من جهة ثانية، حين كان كلّ منهم يؤدي دوره بمهمة التلاعب بالملفات القضائية وتغيير الوصف الجرمي للتهم الخطيرة المنسوبة إلى بعض المطلوبين للعدالة، لقاء منافع مالية. وكشفت أن الملفّ الأخطر الذي شكّل فضيحة كبرى، هو ملف تاجر المخدرات “مهدي. م”، الذي أخلي سبيله بالاستناد إلى تقارير طبية مزوّرة. وبلغت كلفة تلك الصفقة 800 ألف دولار أميركي، وشكّلت رأس جبل جليد التلاعب بالملفات القضائية. ولفتت إلى “وجود حالات أخطر تتمثّل بتغيير الوصف الجرمي لملفات مماثلة، عبر تحويل تهمة الاتجار بالمخدرات لبعض الأشخاص إلى جنحة التعاطي التي لا تستدعي التوقيف”.
رسائل صوتية واعترافات
واللافت أن بعض السماسرة كانوا يتصرفون في قصور العدل بوصفهم أصحاب قرار، بالنظر لعلاقتهم الوثيقة ببعض القضاة، وحسب المصادر نفسها، فإن بعضهم هدد خلال إخضاعه للتحقيق بفضح كلّ شيء، إذا اقتصر الأمر على تقديمه “كبش فداء”، وهؤلاء أبرزوا رسائل تسجيل صوتي، عبر تطبيق “واتساب”، بينهم وبين القضاة والمساعدين القضائيين، والمحامين وكلاء الدفاع في الملفات، ولفتت إلى أن “هؤلاء السماسرة مثلوا أمام هيئة التفتيش القضائي، وجرى استجوابهم في الشقّ المرتبط بدور القضاة حصراً، وكرروا الاعترافات التي ادلوا بها أمام شعبة المعلومات، وهو ما أثار النقمة تجاه شعبة المعلومات، ودفع بعضهم إلى التشكيك بتحقيقاتها”.
واللافت أن أي خبر تتناوله وسائل الاعلام بدأ يثير غضب بعض القضاة، وهذا ما ترجمه مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس، الذي تقدّم بشكوى أمام محكمة المطبوعات في بيروت، اتخذ فيها صفة الادعاء الشخصي ضدّ الإعلامية في محطة تلفزيون MTV الزميلة منى صليبا، وكل من يظهره التحقيق شريكا أو محرضا أو متدخلا.
واستند جرمانوس في ادعائه إلى التقرير الذي قدّمته صليبا، خلال نشرة الأخبار عند الساعة الثامنة من مساء الأربعاء، ونشر على الموقع الالكتروني للمحطة، معتبراً أن التقرير “تضمن معلومات مغلوطة بحقه، بهدف تأليب الرأي العام ضده، والتأثير على قرارات السلطات مدفوعة من قبل جهات مجهولة، وبهدف زرع الشكوك للنيل منه، وتحقيق مآرب الفريق الذي يقف خلفها (غامزاً بذلك من قناة شعبة المعلومات)”.
وردّاً على ما ورد في التقرير، أعلن القاضي جرمانوس، أنه “ليس لديه مكتباً اعلامياً ولا مديراً له يدعى جوزيف عازار، وأن هذه الشخصية معروفة بالتصاقها بأحد الأجهزة الأمنية منذ سنوات”. وطالب بالزام منى صليبا بدفع تعويض شخصي قدره مليار ليرة لبنانية.
وتأتي هذه الشكوى، بعد ساعات على الادعاء الذي تقدّم به القاضي بيتر جرمانوس ضدّ شعبة المعلومات، واتهمها فيه بـ”التمرّد على سلطته، وعدم الامتثال لأوامره، وتوقيف أشخاص خارج المهل القانونية”. وعلمت “المدن” أن ادعاء جرمانوس على “المعلومات” مردّه إلى أن الشعبة لم تمتثل لأمره برفع يدها عن التحقيق مع الموقوف لديها جوزيف عازار، وإحالته إلى الشرطة العسكرية لاستكمال استجوابه، والسبب في ذلك أن هذا الشخص جرى توقيفه بإشارة النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون، وبملف قضائي موجود في قصر العدل في بعبدا وليس في المحكمة العسكرية، وهو ما خلق صراعاً خفياً بين القاضيين عون وجرمانوس، إذ يعتبر الأخير أن توقيف جوزيف عازار المقرّب منه يستهدفه شخصياً.