ثلاثة أشهر انقضت على دخول «قانون الشراء العام» حيّز التنفيذ، كانت كفيلة بترسيخ قناعة أن المشرّع وسّع الرقابة الشكلية على الصفقات العمومية، وقلّص القدرة على ضبط الفساد فيها، مقارنة بما كانت تتمتع به إدارة المناقصات من صلاحيات. القانون الذي بدأ الحديث سريعاً عن الحاجة إلى تعديل الكثير من مواده، تتهرّب بعض الجهات الخاضعة لأحكامه من تطبيقه، وفي مقدمها كازينو لبنان، وتستغل أخرى ثغراته للالتفاف عليه. فيما تصعّب المشكلات التقنية العالقة مهمة الهيئة المختصة بالإشراف على تطبيقه
يوم أقرّ قانون الشراء العام في 29 تموز الماضي، كان من المنتظر أن ينقل نظام الشراء والصفقات العمومية إلى مرحلة أقل فساداً. إذ تكمن أهميته في أنه وضع آليّة مركزيّة موحّدة للإنفاق العام، أخضع من خلالها كل إدارات الدولة ومؤسساتها، من دون استثناء، لرقابة هيئة الشراء العام، لإنهاء مرحلة الصفقات المشبوهة والتفلّت والحدّ من الفوضى. لكن نسب الالتزام بإرسال المستندات المتعلقة بالصفقات والمشتريات إلى هيئة الشراء العام، بعد ثلاثة أشهر على بدء تطبيق القانون، تبيّن وفق رئيس هيئة الشراء العام جان العلية، أن أكثر من 70% من البلديات، وتحديداً الكبرى واتحاداتها، لم تلتزم. وكذلك فعل كازينو لبنان، واللجنة المؤقتة لمرفأ بيروت، فيما التزمت إدارات الدولة بحدود 50%، وبلغت نسبة الالتزام في المؤسسات العامة ومصالح المياه وشركتي الخليوي «ألفا» و«تاتش» 30%. فيما هناك معلومات عن أن «العديد من المؤسسات لا تبلّغ عن كافة مناقصاتها».
إرسال المستندات المطلوبة ليس كافياً للقول إن الرقابة ممكنة، إذ يشير العلية إلى أن «الكادر البشري العامل في الهيئة لا يتخطى الـ11 شخصاً، ما يحول دون إمكانية التدقيق في كل المستندات المرسلة إلى الهيئة من الجهات الشارية. كما لعبت الظروف الوظيفية الراهنة لجهة الدوام الجزئي وغياب التيار الكهربائي، دوراً في تأخير العمل». أي أن الهيئة غير قادرة إلا بحدود دنيا على تلبية احتياجات الجهات الشارية من وزارات وإدارات وسواها… علماً أنه، بحسب نص القانون، من المفترض أن تنجز الهيئة في بداية العام لوائح موحّدة بأسماء لجان التلزيم والاستلام لدى كل الجهات الشارية، وهو ما لا يتفاءل العلية بإمكانية إنجازه للأسباب نفسها، تضاف إليها معضلة عدم التزام الجهات الشارية بإرسال المستندات المطلوبة. وإلى ذلك، فإن إرسال اللوائح إلى الهيئات الرقابية الأخرى لأخذ رأيها بالأسماء المقترحة في اللجان لناحية عدم وجود عقوبات مسلكية بحق المطروحة أسماؤهم، والإجابة على هذه الكتب سيستغرق وقتاً طويلاً، بسبب نقص الكادر البشري، ما يستحيل معه إنجاز اللوائح في بداية العام. ويطرح ذلك أهمية التسريع في إقرار أنظمة الموظّفين في هيئة الشراء العام التي يفترض أن ترسلها رئاسة الوزراء إلى مجلس الخدمة المدنية وشورى الدولة لإبداء الرأي بأقصى سرعة.
ولعدم تذرع قوى السلطة بفرض أعباء مالية إضافية على خزينة الدولة، يفضّل العلية «انتداب موظفين من الإدارات الأخرى المتخمة كوزارة التربية إلى هيئة الشراء العام، بدلاً من السير في الخيار الثاني المتاح، وهو التعاقد». المسارعة إلى توسيع الكادر البشري من شأنه تسيير العمل في الإدارات والوزارات وكافة الجهات الشارية التي ترسل دفاتر الشروط الخاصة بصفقاتها والإعلان عنها إلى هيئة الشراء، وعليها أن تنتظر رأيها، وإن لم تفعل ستتحمل لاحقاً التبعات في حال ظهر أي خلل، «وهذه إحدى ثغرات القانون»، برأي العلية.
تقنياً أيضاً، لم تكن الأمور «سالكة» كما كان متوقعاً. إذ إن تأخير تطوير الموقع الإلكتروني الخاص بالهيئة حال دون وصل الجهات الشارية بالموقع مباشرة، لنشر الإعلان عن مناقصاتها ودفاتر شروطها على الموقع. وما يحصل حالياً، هو التالي: ترسل الجهات الشارية المستندات إلى هيئة الشراء عبر البريد الإلكتروني، ويتكفّل فريق من الموظفين بالتفريغ ونشرها على الموقع. هذه العملية اليدوية تؤخّر إنجاز المطلوب، وتنعكس سلباً على دورة العمل بأكملها.
على ضوء التجربة، ستبادر هيئة الشراء العام إلى الاقتراح على مجلس النواب إعادة النظر بالقانون مع بداية العام الجديد. وإدخال تعديلاتٍ تسهّل تطبيقه، مع الأخذ في الاعتبار «المآخذ المحقة» للجهات الخاضعة للقانون. مسؤولية التشريع، ستتخطى المسائل التقنية، وصولاً إلى إعادة الاعتبار لصلاحيات الهيئة. فالنص الحالي للقانون يقول بانتداب ممثل عن هيئة الشراء العام إلى جلسات التلزيم، مهمته نقل تقرير إلى الهيئة، يمكّنها من طلب ملفات معيّنة، وعلى ضوئها يمكن أن تبدي رأيها بإعادة النظر في أي قرار. وفي حال أصرّت لجان التلزيم على موقفها، يمكن لهيئة الشراء العام الاستعانة بالتفتيش المركزي أو ديوان المحاسبة، أو النيابة العامة المالية إذا كانت هناك مؤشرات على جرم جزائي. وخلال فترة الاعتراض هذه، لا يمكن للمراجع الرقابية النظر في المعاملة إلى أن ينتهي البت بالاعتراضات، ما من شأنه أن يعرقل العمل في الإدارات والمؤسسات العامة. وهنا ستقترح هيئة الشراء العام تعديل القانون لجهة أن تصبح قراراتها ملزمة، مع إمكانية لجنة التلزيم الاعتراض عليها أمام القضاء، وليس العكس. أبعد من ذلك، فإن الوضع القائم على إرسال مندوب من الهيئة لحضور الجلسات، وفق العلية «لا يضمن استقلالية لجان التلزيم عن الجهات الشارية، كما يفرض القانون. وهي ثغرة تحلّ بتوسيع صلاحيات الهيئة نفسها».
شكّلت المزايدات والمناقصات المنجزة في الأشهر الثلاثة الماضية، وأهمها دراسة دفتر شروط امتياز كهرباء زحلة ومزايدة السوق الحرة ومناقصات النفط التي أعلنت الخميس الماضي ومزايدة «ليبان بوست» التي ستحصل بعد شهرين، اختباراً لمدى فاعلية قانون الشراء العام. وبالمقارنة مع فترة توليه إدارة المناقصات يقول العلية: «كان لإدارة المناقصات أثر أكبر على صعيد الحد من الفوضى والفساد في الصفقات العمومية، لكن ضمن دائرة نفوذ أضيق. مع قانون الشراء العام، اتسعت الدائرة وقلّ الأثر». بمعنى أوضح، فإن أيادي هيئة الشراء العام، امتدت إلى مؤسسات لم تذق طعم الرقابة يوماً، كشركتي الخليوي ومصرف لبنان، لكن قدرتها على الضبط طوّقتها ثغرات القانون. وهي نتيجة متوقعة، من مشرّعين فضّلوا تطبيق قانون نموذجي أرسلته الأمم المتحدة، استعجالاً منهم لاسترضاء المجتمع الدولي، عوضاً عن تعديله بما يتناسب وأنظمة البلد.
خلاف على الصلاحيات؟
خلال فترة العمل على قانون الشراء العام، شكّلت لجنة وزارية كانت مهمتها «مراجعة مسودة الاستراتيجية الوطنية لإصلاح الشراء العام وخطة العمل التنفيذية تمهيداً لإقرارها، وتيسير تنفيذ خطّة العمل الإصلاحية بما فيه التواصل مع الجهات الدولية لتأمين الموارد اللازمة والمساندة الفنية، متابعة وضع المراسيم والنماذج التطبيقية المتعلقة بقانون الشراء العام». انتهت المهمة مع دخول القانون حيّز التنفيذ، إلا أن اجتماعاً عقد الاثنين الماضي في وزارة المالية، لإعادة إحياء اللجنة، بإصرارٍ من إدارة معهد باسل فليحان، الذي كان مكلفاً بإدارة أمانة سرّ اللجنة، وذلك من أجل تسهيل حصولها على تمويل من البنك الدولي عبر جمعيات من المجتمع المدني. ما خلق تبايناً بين المعهد ووزارة المالية من جهة، وهيئة الشراء العام من جهة. فقاطع جان العلية الاجتماع، رافضاً «التعدي على صلاحيات الهيئة التي يرأسها، من قبل لجنة وزارية، ستحلّ رديفاً عن مؤسسات وإدارات الدولة».