لفهم خلفيات التعاميم الصادرة عن مصرف لبنان، لا بد من العودة إلى سنة 2019 الزاخرة بالأحداث والاستحقاقات التي آلت تداعياتها إلى ما وصلت إليه الأزمة المصرفية بمختلف مظاهرها، بدءاً من فقدان السيولة التدريجي بالدولار الذي انعكس في البداية إرباكاً في تلبية طلبات السحب والتحويل من حسابات المودعين.
وقد سبق هذا الإرباك خَلل وعدم التزام الصرّافين بسعر صرف الدولار الرسمي خلال الفصل الأول، بحيث شكّلت مع إعلان وزير المالية عن التوجه نحو إعادة هيكلة الدين العام في ظل تحرك مُلفت لمؤسسات التصنيف الدولية الائتماني لبنان ؟؟ بقطاعيه الرسمي العام؟؟، الذي شمل أداء المالية العامة وتطور مديونيتها وقدرتها على السداد، والقطاع المصرفي وفقاً لمؤشرات الملاءة والسيولة عملاً بمعايير الإبلاغ المالي.
في هذا الوقت ظلت مقررات مؤتمر سيدر وحركة ناظره الفرنسي الناشطة تبحث عن إصلاحات جدية على ارض الواقع، تكفي لتغطية تحريك امواله، لا سيما على مستوى قطاع الكهرباء الذي بلغت حصته من عجز الموازنة العامة ومديونية الدولة حداً مقلقاً، استدعى من السلطة التشريعية وضع سقف أعلى له في أول قانون موازنة عامة صدر خلال العام 2017، في خطوة جدية باتجاه إعادة الانتظام إلى المالية العامة كانت واضحة فيها بَصمة الوزير علي حسن خليل بإصرار من الرئيس نبيه بري. وقد جاء ذلك بعد 12 عاماً جرى الإنفاق خلالها من دون موازنات ومن خلال سلف خزينة مخالفة للدستور ولقانون المحاسبة العمومية، والمُلفت أنّ الوزير خليل نفسه هو الذي استشعر هذا الخطر السرطاني بعد نجاحه في إنجاز الحسابات وتبيان تفاقم المديونية وتعاظم مخاطر ارتفاع حصة خدمته من واردات الخزينة، فاستحضر إعادة هيكلة الدين سبيلاً للمعالجة، وقامت القيامة ولم تقعد.
غير أنه مع العودة إلى الصمت، بقيت المؤشرات المقلقة تشغل بال المراقبين وتزيد من القلق على المستقبل، مع فقدان السيولة التي انكشفت بوادرها مع إطلاق حاكم مصرف لبنان قراره الوسيط رقم 12978 تاريخ 14 /1 / 2019، والذي أوجبَ على المؤسسات، التي تقوم بعمليات التحاويل النقدية بالعملات الأجنبية من الخارج، بتسديد قيمتها بالليرة اللبنانية حصراً، حيث لم يكن هناك سوى سعر صرف واحد هو ذلك الثابت منذ عقود.
وقد استمرت الأحداث والاستحقاقات والتطورات السلبية تتوالى خلال الـ2019 نفسها، حيث بلغت الزيادات الضريبية حد الإشباع متجاوزة قدرة الاقتصاد وذوي الدخل المحدود على تحمّلها، وكان منها اعتراضات مطلبية داخلية ذات طابع معيشي بلغت ذروتها مع اندلاع حراك 17 تشرين الأول، على أثر فضيحة وزير الاتصالات المتمثلة بشراء مبنى «تاتش» واقتراحه زيادة على الواتساب، فكانت القشّة التي قصمت ظهر البعير أو الشرارة التي استغلّت لتحقيق غايات مبيتة، فتبعتها استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري بعد أيام معدودة.
ويبدو أنّ أحداثاً أخرى أخطر قد جرت خلال تلك السنة، وإنما في نفق مظلم تمّ من خلاله تهريب أموال الكبار من أصحاب المصارف وسياسيين، في وقت كانت ترتفع مخاطر ديون الدولة حيث كان مصرف لبنان يتشدّد بتطبيق معايير الإبلاغ المالي المتعلقة بالملاءة والسيولة ما أدى إلى إظهار المصارف في حالة إفلاس تقني.
ومع انتهاء ولاية نواب حاكم مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف خلال نيسان 2018، في غياب مفوض الحكومة، لم يبق في موقع السلطة في مصرف لبنان سوى الحاكم الممدّد له لـ6 سنوات خلال العام 2017، بعد أن أدى قسطه للعلى من خلال هندسات مالية مكلفة أرضى بها كبار النافذين وكلّفت ما كلّفت من خسائر لم تستقر قيمتها على مبلغ أكيد بعد.
وها هو الحاكم يتصرف منفرداً فيتخذ ما يراه مناسباً من قرارات تحاصر المودعين صغاراً وكباراً بهيركات مقنّع في غياب أي تنظيم للقيود على حركة اموال المودعين، فظل الشاطر بشطارته. واستمر الحاكم بتوقيع قرارات، وصفها الخبراء بالغريبة والغامضة والمُلتبسة وباستهداف دولارات المودعين للسطو عليها في ظل غموض مصير الودائع والسيولة وتحت ضغط الحاجة وسيف تجميد الودائع واقعياً لأجل غير مسمّى ومن دون أفق.
إستكمالاً للتعليق على تعاميم حاكم مصرف لبنان المربكة يذكّر خبراء متابعون بالقرار المتعلق بالتحويلات النقدية بالعملات الأجنبية الواردة من الخارج عبر المؤسسات غير المصرفية، ويوجب تسديدها للمستفيد بالليرة اللبنانية وفقاً لـ»سعر السوق»، وبالتعميم رقم 151 تاريخ 21/4/2020، المتعلق بـ»إجراءات استثنائية حول السحوبات النقدية من الحسابات بالعملات الأجنبية، ويطلب فيه من المصارف تسديد أية سحوبات أو عمليات صندوق نقداً قد يطلب إجراءها أي عميل نقداً من الحسابات أو المستحقات العائدة له بالدولار الأميركي، أو بغيرها من العملات الأجنبية، ما لم يكن من المستفيدين من أحكام القرار المتعلق بصغار المودعين دون الـ5 ملايين ليرة بشرط أن يبيع المصرف المعني لمصرف لبنان العملات الأجنبية الناتجة عن عمليات السحب من الحسابات أو المستحقات، في غياب الوحدة الخاصة في مديرية العمليات النقدية والمنصة الالكترونية تضمّ كلاً من مصرف لبنان والمصارف ومؤسسات الصيرفة ويتم من خلالها «الإعلان بكل وضوح وشفافية عن أسعار التداول» بالعملات الأجنبية النقدية، لا سيما بالدولار الأميركي، وفقاً لـ»سعر السوق»، من دون أن يتم إنشاء هذه الوحدة حتى اليوم لأسباب مجهولة، بما يبدو بقصد إتاحة الحرية لكل مصرف في اعتماد سعر صرفه الخاص مع عملائه.
ويبدو أنّ «سَلبطة» مصرف لبنان على سحوبات المودعين بالعملات الأجنبية، بحجة تأمين «حاجات الاقتصاد الوطني» ومقتضيات المصلحة العامة، تكشف عجزه عن تغطية الاعتمادات اللازمة لاستيراد القمح والأدوية والمحروقات، بالعملات الأجنبية التي تَشي تعاميم مصرف لبنان ببلوغها خطاً أحمر ما، الأمر الذي يفسر أيضاً عودته لوضع يده على التحويلات الواردة بالعملات الأجنبية عبر المؤسسات المالية من غير المصارف، وكذلك على السحوبات المحتملة للمودعين، ممّن لم يعودوا قادرين على انتظار الإفراج عن ودائعهم بعد التجميد الواقعي الذي طالها والمستمر منذ شهور، وإلزامهم بالتخلي عن دولاراتهم بسعر أقل من السوق الفعلي.
يضيف الخبير إلى مخاطر هذه التعاميم السعي لإرساء أعراف في العلاقات المصرفية وتغطيتها بالظروف الاستثنائية المستمرة لفترة، الأرجح أن تطول ويتكرّس معها انعدام الثقة بالمصارف وبمصرف لبنان وبالنظام المصرفي ككل، فيما الحاجة ملحّة لتنظيم المرحلة بطريقة عادلة.
من الاقتراحات العلاجية، هناك خبراء يقترحون تعيين بديل عن الحاكم، وآخرون يشهدون على إتمام تعيين المجلس المركزي عبر تعيين نواب الحاكم، ورئيس وأعضاء لجنة الرقابة على المصارف، وتسمية مفوض جديد للحكومة لدى مصرف لبنان وتعيين مدير عام أصيل لوزارة الاقتصاد، تفعيلاً للرقابة على أنشطة مصرف لبنان والمصارف ولمواكبة التدقيق في حسابات مصرف لبنان توصّلاً لبيان حقيقة أوضاعه وإمكانياته المالية والتحقيق في أسباب أزمة النظام المصرفي وتسرّب أموال المودعين، وتمهيداً لمحاكمة المسؤولين عن هذه الجريمة الوطنية الكبرى.