قُضي الأمر، وبات بالإمكان رؤية إسم لبنان على اللائحة الرماديّة، في الموقع الرسمي لمجموعة العمل المالي. وتحت هذا العنوان، على الموقع نفسه، يمكن رؤية لائحة بالإلتزامات التي يُفترض القيام بها للخروج من اللائحة، والتي تمثّل بحد ذاتها أسباب الدخول فيها. هناك، يمكن معرفة من يتحمّل مسؤوليّة هذا القرار المؤلم، الذي سيترك تداعياته على المديين المتوسّط والبعيد، وإن لم يشعر اللبنانيون على المدى القصير بتداعيات القرار. مع الإشارة إلى أنّ هذا القرار يعني أنّ لبنان يواجه ضعفًا في تدابير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، حيث تحتاج البلاد إلى العمل بشكل مُكثف لتلبية المعايير الدولية في هذا المجال.
سيكون هذا التطوّر لحظة تحوّل، لها ما بعدها، في سياق الأزمة الماليّة اللبنانيّة. أمّا تسخيف القرار والتقليل من شأنه، فليس سوى محاولة لرفع المسؤوليّة عن المتسببين به، أو ربما للتقاعس عن القيام بما يلزم لخروج من “اللائحة الرماديّة”. ويحقّق الغاية نفسها، بطبيعة الحال، كل من يربط القرار بمؤامرات سياسيّة خارجيّة حصرًا، في لحظة الحرب القائمة، بدل العودة إلى الإصلاحات والشروط الماليّة التي تحدّثت عنها تقارير المجموعة نفسها خلال السنوات الماضية، بالتوازي مع منح لبنان مهل متعدّدة لتنفيذ هذه الشروط. وإن كان من البديهي القول أنّ ثمّة تأثير سياسي موجود، لكن محدود، على قرار المجموعة.
المسؤوليّات وأسباب القرار
تحت إسم لبنان، على موقع مجموعة العمل المالي، يمكن العثور على المشاكل التي أدّت إلى إدارج البلاد على القائمة الرماديّة. من الناحية الإيجابيّة، تلحظ المجموعة أنّ لبنان أحرز تقدمًا في تنفيذ عدد من الإجراءات الموصى بها في التقرير، من بينها إصدار تعاميم للبنوك والمؤسسات المالية لإنشاء قسم مخصص لمكافحة جرائم الرشوة والفساد، وتقديم إرشادات بشأن الأشخاص المكشوفين سياسيًا، واتخاذ إجراءات ضد الأنشطة المالية غير المرخصة. غير أنّ هذا التقدّم المُحرز لم يكن كافيًا كما هو واضح في تفادي الوصول إلى القائمة الرماديّة، وهو ما حصل يوم الجمعة فعلًا.
هكذا، توضح المجموعة على موقعها التدابير التي يفترض أن يقوم بها لبنان مستقبلًا لتصحيح وضعه، والخروج من اللائحة الرماديّة. وهذه التدابير كانت قد طلبتها المجموعة سابقًا في تقارير سابقة، من دون أن تتقدّم البلاد في تنفيذها، وهو ما أدّى إلى صدور قرار يوم الجمعة. وهذا تحديدًا ما يمكن الركون إليه لتحديد المسؤوليّات محليًا، بالنسبة لأسباب صدور هذا القرار.
وعلى أي حال، يمكن تفنيد الإلتزامات المطلوبة من لبنان –كما وردت على موقع المجموعة- على النحو التالي:
– تعزيز آليات التعاون الدولي، إذ “يجب تحسين تنفيذ طلبات المساعدة القانونية المتبادلة، وتسليم المجرمين، واسترداد الأصول”. وفي هذا الجانب، تشير المجموعة بوضوح إلى ضعف استجابة السلطات القضائيّة في لبنان، لطلبات التعاون التي وردت من المحاكم الأوروبيّة، بخصوص العديد من شُبهات الجرائم الماليّة، ومنها تلك التي تخص حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة.
– زيادة التحقيقات والملاحقات القضائية وإصدار الأحكام المتعلقة بغسل الأموال بما يتماشى مع المخاطر المحددة. وهذا البند، يعيد التصويب مجددًا على مكامن الضعف التي أظهرتها السلطات القضائيّة، في مكافحة الجرائم الماليّة وملاحقة شبهات تبييض الأموال.
– تحسين استرداد الأصول (المكتسبة بشكل غير شرعي) وكشف وضبط التحركات غير المشروعة للعملات والمعادن الثمينة عبر الحدود.
– تطبيق العقوبات المالية (الدوليّة) بشكل فوري، وخصوصًا على المهن غير المالية وبعض المؤسسات المالية غير المصرفية. وفي هذا الجانب، تلمّح المجموعة بوضوح إلى أنشطة مؤسّسة القرض الحسن، بالإضافة إلى نشاط بعض الصيارفة في السوق الموازية.
– مراقبة المنظمات غير الربحية العالية المخاطر، من دون تعطيل أو تثبيط الأنشطة المشروعة للمنظمات.
– رفع مستوى فهم المخاطر لدى المهن غير المالية، وتطبيق عقوبات فعالة ومتناسبة للامتثال لمتطلبات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وبمراجعة تقارير المجموعة السابقة، يصبح من الواضح أنّ المقصود بالمهن “غير الماليّة” هي المحاماة والتدقيق المالي والمحاسبة المُجازة، بالإضافة إلى الشركات التجاريّة التي تتجاوز في تعاملاتها العقوبات الدوليّة.
– تحسين استخدام السلطات المختصة للمعلومات المالية والاستخبارات المالية. والمقصود هنا تحديدًا السلطات الضريبيّة، والأجهزة المخوّلة بمكافحة التهريب، بالإضافة إلى السلطات القضائيّة.
مفاعيل ونتائج القرار
على المدى القصير، تُجمع مصادر الإدارات المصرفيّة على استبعاد أي تأثيرات مباشرة وسريعة، خصوصًا من جهة علاقة المصارف المحليّة مع المصارف المُراسلة. أي بمعنى أوضح، لن يكون من المتوقّع أن يعاني لبنان، وبشكل فوري، من عزلة ماليّة أو انقطاع في علاقته المصرفيّة مع الخارج. غير أنّ التأثير الفعلي سيحدث على المديين المتوسّط والبعيد، وذلك على المستويات التالية:
1- من المتوقّع أن تشهد المصارف والمؤسسات الماليّة –وبشكل تدريجي- تعقيدات أكثر في العلاقة مع الخارج، بما سيشمل طلب المزيد من المستندات التوضيحيّة التي تفسّر غاية التحويلات الماليّة للعملاء، أو المزيد من العمولات التي تترتّب على أي تحويل. وهذا يرتبط بوجود سياسات احترازيّة خاصّة تتبعها المصارف الأجنبيّة، عند التعامل مع دول مُدرجة على القوائم الرماديّة.
2- بالنسبة للاستثمارات الأجنبيّة، في المستقبل، سيكون متوقّعًا أن يأخذ أي مستثمر بعين الاعتبار وضعيّة البلاد على لوائح مجموعة العمل المالي، قبل اتخاذ أي قرار استثماري. وهذا يرتبط بكلفة التحويلات الأعلى، وتعقيداتها، عند التعامل مع البلدان المدرجة على اللائحة الرماديّة. مع الإشارة إلى أنّ إحصاءات صندوق النقد الدولي توضح أنّ البلدان التي تم إدراجها على القائمة الرماديّة عانت بالفعل من تراجع في التدفقات النقديّة الواردة من الخارج، لهذا السبب بالذات.
3- في العلاقة مع المؤسسات الماليّة الدوليّة، ومنها صندوق النقد، لن يخسر لبنان القدرة على الاستفادة من البرامج التمويليّة لهذه المؤسسات. وهذا ما حصل مع باكستان التي دخلت في برنامج مع صندوق النقد، خلال فترة وجودها على اللائحة الرماديّة. لكن سيكون متوقّعًا أن تفرض هذه المؤسسات بعض الشروط الإضافيّة المرتبطة بمخاطر الجرائم الماليّة وتبييض الأموال، في علاقتها مع السلطات اللبنانيّة.
4- أمّا القطاع المصرفي بالتحديد، فسيعاني من صعوبات أكبر في استقدام الرساميل والاستثمارات الأجنبيّة، عند الدخول في مرحلة إعادة الهيكلة وإعادة الرسملة، التي ستحتاج هذا النوع من الاستثمارات. وهذا يعود بالطبع إلى الإشكالات المحيطة بعمل المصارف في بيئة مرتفعة المخاطر نسبيًا.
في النتيجة، لا يمكن التقليل من خطورة وتأثير ما جرى، كما لا يمكن التغاضي عن أهميّة تصحيح مكامن الخلل التي أدّت إلى إدراج لبنان على اللائحة الرماديّة. فالبقاء على تلك اللائحة، يمكن أن يعني المزيد من العراقيل في مسار التعافي المالي مستقبلًا، هذا إذا دخل لبنان في هذا المسار بالفعل. وفي جميع الحالات، يمكن القول أنّ الغالبيّة الساحقة من شروط المجموعة تصب بالفعل في مصلحة لبنان، بمعزل عن الجانب المتعلّق بتأثير تصنيفه، وخصوصًا بالنسبة إلى تفعيل عمل السلطات القضائيّة في ملاحقة الجرائم الماليّة أو زيادة الرقابة الهادفة إلى مكافحة الكسب غير المشروع.