إستنكارات بالجمّلة بعد حادثة جورج زريق، من المواطن العادي إلى أعلى المسؤولين. هذه الإستنكارات بقيت في خانة التصريح وخالية من أية ردّة فعل حقيقية لمعالجة السبب الكامن في تفشّي اللاعدالة الإجتماعية في لبنان. وإذا كانت هذه الحادثة لن تؤدّي إلى ثورة، إلّا أنّ إحتمال حصول حوادث مُشابهة يبقى رهينة خطوات السلطة السياسية.
المعلومات المتوافرة عن قضية جورج زريق تُشير إلى أنّ الرجل فقد عمله هو وزوجته، وبالتالي أخذ يغوص وعائلته في الفقر. وما رفض المدرسة منحه الإفادة المدرسية لنقل ابنته إلى المدرسة الرسمية، إلّا نقطة الماء التي طفح بها الكيل.
تعريف الفقر يتمّ عادة بمعايير إقتصادية من خلال الدخلّ، حيث أنّ العائلات التي تتمتّع بدخل مُنخفض، أي أقلّ من 320 دولاراً أميركياً شهرياً، تُعتبر في حالة فقر. إلّا أنّ هذا التعريف لا يعكس الفقر الحقيقي والذي، إضافة إلى الدخل المُنخفض، يجب أن يُضاف إليه اعتماد هذه العائلة على مُساعدة خارجية للصمود (جمعيات…)، والعيش في منطقة محرومة من كل مقومات العيش الكريم (طرقات، خدمات عامّة، مياه نظيفة، صرف صحّي…).
أيضاً يُلاحظ لدى العائلات الفقيرة عدمّ القدرة على تمويل الدراسة، مما يدفع العديد من هذه العائلات إلى سحب أبنائهم من المدارس بهدف دفعهم إلى العمل وتأمين مدخول إضافي للعائلة.
هذا الأمر يدفع هذه العائلات (وهي ظاهرة تاريخية) إلى زيادة الإنجاب بهدف رفع عدد العاملين في العائلة من أجل زيادة الدخلّ. وتبقى المهن التي يتعاطى فيها أفراد العائلات الفقيرة هي التي لا تتطلّب مجهوداً فكرياً عالياً، بل تحتاج مجهوداً جسدياً كبيراً، عادة عبر العمالة اليومية (بناء، زراعة، نقل، صناعة، خدمات…).
لبنان ليس ببلد فقير بالمعيار الإقتصادي، فهو مُصنّف من قبل المُنظمات الدولية في خانة البلدان ذات الدخل المُتوسطّ، حيث تتمّ قسمة الناتج المحلّي الإجمالي على عدد السكان، ليظهر أنّ دخل الفرد هو 11 ألف دولار سنوياً أي 920 دولاراً أميركياً شهرياً للفرد الواحد.
حساباتنا تُشير إلى أنّ مُعدّل نسبة الفقر في لبنان 31.52% (مع حد أقصى 38% في عكار) أي أنّه بين كل 1000 شخص هناك 315 شخصاً فقيراً، مع مدخول أقلّ من 4 دولارات أميركي يومياً (أو 124 د.أ شهرياً).
كما أنّ نسبة العائلات التي لها مدخول أقلّ من 320 د.أ شهرياً تتوزّع بين أقلّ من 5% (بيروت وجبل لبنان) إلى أكثر من 25% (عكار، الهرمل، وأقصى الجنوب).
إذًا، السؤال المطروح: كيف يُمكن لبلد يتمتّع بدخل فردي يوازي 920 د.أ شهرياً (أو11 ألف د.أ سنوياً) أن يحوي هذا الكمّ الهائل من العائلات الفقيرة؟
الجواب بكلّ بساطة هو «التوزيع اللاعادل للثروات في لبنان».
تُشير دراسة مصرف كريدي سويس، إلى أنّ نسبة اللبنانيين الذين يمتلكون ثروة أقل من 10 آلاف د.أ هي 67.3%، ما بين 10 و100 ألف د.أ 29.7%، ما بين 100 ألف ومليون د.أ 2.8%، وأكثر من مليون د.أ 0.3%.
والأصعب في هذه الأرقام أنّ 8000 شخص في لبنان يمتلكون نصف ثروة لبنان. مما يعني أن توزيع الثروات في لبنان غير عادل.
ما أسباب غياب العدالة في توزيع الثروات؟
تعزو العديد من الدراسات الأسباب إلى النزوح السوري وإلى الأوضاع الإقتصادية القائمة. وإذا كانت هذه الأسباب لها نصيبها كمسبّب للفقر، إلّا أنّ السبب الرئيسي يكمن في الفساد الذي له تداعيات كارثية على المُجتمع. الجدير ذكره، أنّ نسبة الفقر في لبنان كانت 28% قبل الأزمة السورية.
أما تداعيات الفساد على الإقتصاد فهي قبل كل شيء إدخال الخلّل إلى الآليات التي ترعى اللعبة الإقتصادية. وهذا الخلّل لا تظهر نتائجه إلّا بعد فترة طويلة.
الماكينة الإقتصادية تضم لاعبين إقتصاديين أساسيين هما الأُسَر والشركات، وبالتالي تُعتبر الأُسر الزبون الوحيد للشركات والمورّد الوحيد لليد العاملة.
من هذا المُنطلق يجب أن يكون هناك توازن بين ثروة الشركات وثروة الأُسر (لا يعني قسمة متساوية) حتى يبقى للشركات زبائن، ما يسمح لها بالإستمرارية.
وهنا يأتي دور الدوّلة الذي تُعرّفه النظرية الإقتصادية على أنه دور تشريعي، تنظيمي ورقابي، إضافة إلى دور إعادة توزيع الثروات من خلال الأداة الضريبية.
أين الفساد من كل هذا؟ الفساد يُلغي عمل الدولة التشريعي والرقابي والتنظيمي، وتُصبح اللعبة مُنحازة إلى الذي يملك المال. ولأنّ الشركات هي التي تتمتّع بالقدرة المالية الأكبر، لذا تنحاز اللعبة الإقتصادية لصالحها. هذا القول لا يشمل كل الشركات بل يطال قسماً صغيراً، وصغيراً جدًا بحسب الأرقام (8000 شخص يملكون نصف ثروة لبنان).
لذا أمام الحكومة اللبنانية عدد من الخطوات عليها القيام بها لتصحيح الوضع:
الأولى – إعطاء الفقير فرصة الحصول على عمل وتأمين كل المُستلزمات لذلك، بحكم أنّ تأمين مدخول شهري للفرد هو الباب الرئيسي لمحاربة الفقر.
الثانية – تصحيح الخلل الموجود حاليًا من خلال مبادرة أو قانون يُعطي الموظّف حق المشاركة بمداخيل الشركات من خلال آلية معينة (مثلًا Stock Options). هذا الأمر يسمح بتصحيح قسم من الخلل القائم في المُجتمع.
الثالثة – العمل على محو أحزمة الفقر القائمة في بعض المناطق من خلال إدخال عناصر التنمية فيها، من تأهيل للخدمات والبنى التحتية، ولكن أيضًا من خلال خلق مناطق صناعية بتحفيز ضريبي. مما يعني زيادة ريادة الأعمال في هذه المناطق.
الرابعة – محاربة الفقر المُدقع (أقلّ من دولار واحد في النهار) والذي تخطّت نسبته الـ 8% بحسب الإحصاءات. هذا الأمر مُمكن أن يكون من خلال دعم مادي مباشر، أو من خلال تأمين مراكز إجتماعية تسمح لهؤلاء الفقراء بالإستفادة منها لإكفاء حاجاتهم الأساسية من أكل وشرب وطبابة.
أعلن الرئيس سعد الحريري إلتزامه بأهداف التنمية المُستدامة للأمم المُتحدة 2030. ويأتي على رأس هذه الأهداف الـ 17 محاربة الفقر والقضاء على الجوع. فلنأمل أن تعمد الحكومة إلى البدء بمعالجة هذين الهدفين اللذين يُعتبران الأساس للكرامة والوجود الإنساني.

مصدرالبرفسور جاسم عجاقة - الجمهورية
المادة السابقةرينو تدين تجاوزات نيسان في تحقيقاتها في قضية كارلوس غصن
المقالة القادمةأزهري: المصارف واجهت التحدّيات بنجاح وكفاءة