لم ينشأ النمط الاستهلاكي المصطنع والفاحش في لبنان عن عبث. فاستمرارية نموذج التمويل كانت تتطلب رفع الأكلاف المحلية بنسبة كبيرة ليس ممكناً للمجتمع استيعابها من دون دعم قدرته الشرائية. وجزء من هذا النموذج كان مبنياً أيضاً على صناعة الاغتراب التي تنطوي على مردود مالي كبير عبر تحويلات المغتربين إلى ذويهم في لبنان، يوازي ربع الناتج المحلي الإجمالي. في ظل هذا النموذج لم يكن ممكناً إلا نموّ الاستهلاك بشكل مطّرد.
وكان الشكل الأساسي لهذا النمط، يتخذ من الاستهلاك التقليدي ظاهرة واضحة للعيان. واستمرّ ذلك، حتى الربع الأخير من عام 2019. ففي ذلك الوقت بدا أنه لا مفرّ من الانهيار النقدي والمصرفي، وأن فيروس كورونا سيتحوّل إلى جائحة تصيب سكان الأرض وتعطّل قدراتهم الإنتاجية. هكذا بدأ يظهر التحوّل في الاستهلاك من التقليدي إلى الرقمي. استعمال الإنترنت للتسوّق وشراء الحاجات، حتى الأساسية منها، وتسليمها بواسطة «الدليفيري»، سيطر على نمط الاستهلاك، من دون أن يؤثّر بشكل جوهري على نسب الاستهلاك. فبحسب أرقام البنك الدولي، بلغت نسبة الاستهلاك إلى الناتج المحلي 121.7% عام 2020 مقارنة مع 92% عام 2008. الارتفاع لا يدلّ بالضرورة على زيادة في الاستهلاك، بل يرجح أن سببه انخفاض قيمة الناتج، واستمرار ثبات الاستهلاك الذي يدلّ عليه الاستيراد طالما أنه لا إنتاج محلياً يعوّض السلع المستوردة.
ما حصل أيام كورونا والانهيار، أن شكل الاستهلاك تبدّل. ففي السنوات الخمس الأخيرة، بدأ المستهلكون ينخرطون أكثر في عالم التجارة الإلكترونية. فقد ازداد عدد مستخدمي الإنترنت واستخدامه كأداة لشراء سلعة أو تسديد فواتير من 4% عام 2018 إلى 20% عام 2022 بحسب إحصاءات مصدرها «DataReportal». جاء ذلك نتيجة ارتفاع عدد مستخدمي منصّات التواصل الاجتماعي إلى أكثر من 5 ملايين يمثّلون هدفاً إعلانياً لشركات الإعلانات. وتقول الإحصاءات، أن عدد مستخدمي يوتيوب (المستهدفين بالإعلانات) يصل إلى 5.06 مليون، أي ما يوازي 75.2% من عدد سكان لبنان. وعدد مستخدمي فايسبوك يصل إلى 3.15 مليون مستخدم، أي 46.8% من السكان. فالإعلانات على هذه المواقع تعمل بمساعدة برامج الذكاء الاصطناعي، لاستهداف المستخدم وفقاً لاهتماماته وسلوكه. فهذه المنصّات تجمع بيانات المستخدمين وتصنّفها ثم تبيعها لشركات الإعلان. علماً بأنه يتم جمع البيانات من مستخدمي الإنترنت الذين يستعملون الهاتف الخلوي بنسبة 61.85% من مجمل مستخدمي الإنترنت، وبنسبة 35.95% عبر جهاز الكومبيوتر.
في الواقع، لا يمكن للمستخدم الاستفادة من هذه المواقع من دون «قبول» شروط تسمح بجمع بياناته. وغالبية المستخدمين في لبنان يوافقون من دون الاطلاع على مضمون ما يُوافَقون عليه من شروط ضرورية لاستخدام هذه المواقع. هكذا جمعت إدارات المواقع، كميات هائلة من البيانات سمحت باستعمالها تجارياً ومراكمة أرباح خيالية، وفتحت الباب أمام التجارة الإلكترونية، ليصبح المستهلك على تواصل مباشر مع الشركات، ولاقتطاع حصّة سوقية واسعة من قطاع التجزئة.
التجارة الإلكترونية كشفت عن الصورة الشرسة للنمط الاستهلاكي في لبنان. فعلى سبيل المثال تظهر أرقام «DataReportal» أن كل مستخدم لمنصة فايسبوك في لبنان ينقر على ما معدله 17 إعلاناً شهرياً. وحتى في ظل الانهيار ساعدت هذه التجارة المستهلك على توفير حاجاته وتلبية رغباته. فعلى سبيل المثال، ومع تحول المصارف اللبنانية إلى «دكاكين»، ظهر مفهوم الـ«cash on delivery» أي الدفع نقداً عند الاستلام ليحلّ مكان البطاقات المصرفية.
والمفاجأة أن نسبة الاستهلاك من الناتج المحلي ارتفعت بالتوازي مع زيادة الاستهلاك عبر التجارة الإلكترونية. إذ تشير أرقام «DataReportal» إلى أن نسبة المستهلكين عبر التجارة الإلكترونية ازدادت أكثر من 100% بين عامَي 2017 و2022. يقدر حجم هذه التجارة حتى شهر حزيران 2022، بنحو 3.4 مليار دولار، النسبة الأكبر منها يُصرف على الإلكترونيات أو ما قيمته 1.4 مليار دولار، وعلى الأزياء بقيمة 780 مليون دولار.
لكن من يستفيد من هذا الاستهلاك؟ تقول الإحصاءات الرسمية أن 50% من اللبنانيين لا يستهلكون إلا 20% من فاتورة الاستهلاك، فيما 20% يستهلكون نصف هذه الفاتورة، سواء كان مصدرها الاستهلاك بشكله التقليدي أم بشكل الرقمي. الشريحة العليا من المستهلكين هم الأكثر ثراء في المجتمع والأكثر قدرة شرائية، وهم يمثّلون الطبقة التي كانت الأكثر استفادة من نموذج التمويل.