كهرباء من قبرص… إنقاذ للبنان أم فخ مالي جديد؟

تلت زيارة الرئيس اللبناني جوزاف عون لقبرص في تموز الماضي، في إطار الجهود الرامية إلى إنهاء ملف ترسيم الحدود البحرية مع قبرص، تطورات في ملفات استراتيجية أخرى، أهمها الأمن الطاقوي، حيث تلقّى عون عرضًا من نظيره القبرصي نيكوس خريستودوليدس، يقضي باستعداد قبرص لمدّ كابلٍ بحري لاستجرار الكهرباء. وبالتزامن مع زيارة الرئيس القبرصي إلى بيروت اليوم، للتوقيع على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، أعيد فتح ملف استجرار الكهرباء، وغيره من الملفات الاستراتيجية في مجالات الدفاع والأمن والطاقة. وأبدى عون استعداد لبنان “لتعزيز الاتفاقية الاستراتيجية المشتركة مع الاتحاد الأوروبي”.

فيما يبدو أن ملف استجرار الكهرباء القبرصية، كترسيم الحدود البحرية، يتخذ أبعادًا جيوسياسية واضحة تربط لبنان بالقارة الأوروبية، تتجاوز مجرد سدّ حاجة لبنان إلى إنهاء العتمة التي تغزو منازل اللبنانيين ومعالجة أزمة المولدات الكهربائية.

إلا أن المشهد الجيوسياسي سيزداد تعقيدًا مع الحنق التركي على كل من بيروت ونيقوسيا بسبب إتمام اتفاقية الترسيم، التي اعتبرتها أنقرة “نكثًا بالوعود وتجاهلًا للدعم التركي”.

وفي ظل تزايد الشكوك حول مشروع مد الكابل البحري، الذي تتراوح تكلفته التقديرية بين 1.1 إلى 1.4 مليار دولار (400-600 مليون للكابل و700-800 مليون للبنى التحتية)، والذي لم يدخل بعد مرحلة التخطيط التقني، تُطرَح أسئلة جديّة حول جدواه الاقتصادية، وما إذا كان سيفًا ذا حدّين رغم أهمّيته الاستراتيجية، وإذا كان سيشكّل استمرارًا لنهج الحلول الترقيعية القائمة على القروض، في الوقت الذي يُهمَل فيه إصلاح البنية التحتية والإنتاجية المهترئة لقطاع الطاقة، مما يفاقم الأزمة على المدى البعيد، في الوقت الذي تتزايد فيه حاجة لبنان إلى حلّ أزمة الكهرباء لبدء التعافي الاقتصادي. فتجربة اللبنانيين المريرة مع بواخر توليد الطاقة والمولدات الخاصة تُثبت أن أي مشروعٍ لا يرتكز على إصلاح جذري للبنية التحتية ولمؤسسة كهرباء لبنان، ووضع حدٍّ للفساد الذي ينخر القطاع، فإن تكلفته ستتحول إلى ديون مستقبلية تُضاف إلى مجموع تكاليف المشاريع السابقة التي عمقت الأزمة.

أهداف جيوسياسية لمشاريع الربط الطاقوي

تشهد منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط في السنوات الأخيرة اهتمامًا متزايدًا بمشاريع الربط الكهربائي بين دولها، كوسيلة لتعزيز أمن الطاقة والاستفادة من الموارد المتاحة.

تُعد خطة الربط الكهربائي بين لبنان وقبرص من المبادرات التي تنطوي على الكثير من الطموحات السياسية والاقتصادية، مع تأييد رفيع المستوى من كلا الجانبين. وينظر المسؤولون اللبنانيون إلى أن هذا المسار الذي يسلكه لبنان مع قبرص، قد يكون بمثابة مفتاح للتعاون الاستراتيجي مع الاتحاد الأوروبي، في إطار تعزيز أمن لبنان واستقراره.

بالتالي، فهو يمثل جزءًا من استراتيجية أكبر. فبعد أن كانت عبارة “قبرصة لبنان” تُستخدم في سياق سلبي خلال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية (تخوفًا من تحويله إلى دويلات متناحرة)، أصبحت اليوم تُستخدم في سياق “كهربته” وتعزيز شراكاته الإقليمية عبر ربطه بمشاريع الطاقة الأوروبية.

هذا ما يؤكده الباحث في مجال الطاقة، مارك أيوب، في تصريح لـ “المدن”، حيث قال: “يكتسب المشروع أهمية استراتيجية بالغة، كونه يربط لبنان بالشبكة الأوروبية. بيد أنه لا يشكل أولوية اقتصادية بالنسبة للبنان، فهو ليس سوى مشروعٍ مكمّلٍ، ولا يمكن الاعتماد عليه بشكل أساسي في توفير الكهرباء للبنانيين، وعليه، لا ينبغي رهن الأمن الطاقوي للبنان للخارج، بل يجب التركيز على إيجاد حلول داخلية تبدأ بإصلاح البنية التحتية والإنتاجية لقطاع الطاقة”.

وأضاف ردًا على سؤال حول التكلفة: “إن التكلفة المتوقعة ستكون كبيرة على لبنان في المدى القصير، ويُطرَح السؤال حول مصادر التمويل، لكن ينبغي البحث بشكل أعمق في جدوى المشروع على المدى المتوسط والطويل، أي خلال الفترة بين عامي 2035-2045، لا سيما أنه جزء لا يتجزأ من استراتيجية Med-TSO الرامية إلى تحقيق التكامل الطاقوي بين دول البحر الأبيض المتوسط”.

قبرص من العزلة إلى مركزٍ إقليمي

من المهم تناول المشروع من المنظور القبرصي أيضًا، فقبرص التي كانت شبكتها معزولة وتعتمد بشكل كبير على الوقود المستورد لإنتاج الكهرباء، ولا تملك فائضًا لتصديره، أصبحت في طور التحول إلى مركزٍ طاقي إقليمي، من خلال مشروع EuroAfrica Interconnector الذي يموله الاتحاد الأوروبي ويربطها بشبكة الكهرباء الأوروبية عبر اليونان، بالإضافة إلى مصادر الطاقة الخضراء من دول شمال أفريقيا، وذلك بتعاون مشترك بين مصر وقبرص واليونان وبمشاركة إسرائيلية. سينقل هذا المشروع 2000 ميغاواط من الكهرباء في كلا الاتجاهين عبر كابلات بحرية تمتد 1396 كيلومترًا وبعمق قد يصل إلى 3,000 متر تحت مستوى سطح البحر، مع قدرة نقل سنوية تبلغ 17.5 تيراواط/ساعة. غير أن هذا التحول لا يخلو من التحديات الاقتصادية والجيوسياسية، أبرزها الخلافات الحدودية البحرية مع تركيا، والتي قد تسبب تأخيرات وتكاليف إضافية، كما أن الربط مع لبنان سيتطلب استثمارات إضافية في البنية التحتية.

شكوكٌ حول الجدوى الاقتصادية

يُثير هذا المشروع جملةً من التساؤلات، لعل أبرزها التضارب بين التكلفة الكبيرة التي تتجاوز مليار دولار، وإمكانية توجيه المبلغ نفسه لإنشاء معامل محلية تعتمد على الغاز وتنتج الكمية ذاتها من الكهرباء. وتتفاقم هذه المفارقة مع فارق التسعيرة المتوقّع، حيث من المتوقع أن يُكلّف استجرار الكيلوواط/ساعة الوارد من قبرص بين 35 و40 سنتًا وفقًا للخبير الدولي في شؤون الطاقة رودي بارودي، في حين تبلغ تكلفة الإنتاج المحلي للكيلوواط/ساعة 13.7 سنتًا وفقًا لوحدة الأبحاث الاقتصادية في بنك الاعتماد اللبناني. وتبرز كذلك معضلة التمويل، فمن أين سيتم توفير هذا المبلغ الذي يتجاوز مليار دولار؟ هل سيعتمد لبنان على زيادة الضرائب في وقت يعاني فيه اللبنانيون من أزمات اقتصادية ومالية طاحنة؟ أم سيتم اللجوء إلى مساعدات خارجية قد تأتي بشروط سياسية إضافية في زمنٍ تُنتهكُ فيه سيادة لبنان بأشكال متعددة؟ أم سيتم الاقتراض من البنك الدولي مما يزيد من عبء الديون العامة التي تتجاوز حاليًا قدرة البلاد على السداد؟

ماذا عن استجرار الكهرباء من الأردن؟

وأوضح أيوب أن تكلفة استجرار الكهرباء من الأردن مرورًا بالأراضي السورية بحسب العقد الموقع بين لبنان والأردن في العام 2022 أتت باهظة، أما التغذية فوتيرتها مهددة بعدم الانتظام بسبب الأوضاع الأمنية غير المستقرة في الجنوب السوري، وعدم امكانية الاستجرار في حال لم يكن الفائض لدى الأردن متوفرًا خلال فترة ما. وقال: “تبدأ هذه التكلفة من 11.2 سنتًا للكيلوواط/ساعة عندما يكون سعر برميل النفط دون 80 دولارًا، ويمكن أن تتجاوز 16.2 سنتًا في حال ارتفع سعر البرميل فوق هذا المستوى، وهذه الأسعار تعتبر مرتفعةً مقارنةً بتكاليف الإنتاج في المعامل المحلية او من الطاقة المتجددة”. إلا أنه أضاف إلى أن “مقاربة استجرار الكهرباء من الأردن ستصبح مختلفة اليوم بعد تغير الظروف الجيوسياسية في سوريا، ومن المتوقع إعادة التفاوض من أجل تخفيض التكلفة مجددًا”.

وزارة الطاقة والمياه اللبنانية

وفي تصريح آخر لـ “المدن”، أشار مصدر مسؤول في وزارة الطاقة والمياه إلى أن هذا المشروع لم يُترجَم بعد إلى خطة للتنفيذ، ولا يزال في طور التفكير الأولي للبحث في إمكانيات تنفيذه وتكاليفه الحقيقية، وليس هناك دراسة جدوى اقتصادية بعد.

وأكّد أن الزيارات المتبادلة قد بدأت بين الطرفين منذ زيارة الرئيس عون لقبرص في تموز/يوليو الماضي، حيث تلاها اجتماع بين وزير الطاقة والمياه جو صدّي والسفيرة القبرصية في لبنان ماريا هادجدسثيو، ثم زيارة لصدّي إلى قبرص ليجتمع بالرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس، ووزير الطاقة القبرصي جورج باباناستاسيو حيث تم الاتفاق على تشكيل لجان فنية مشتركة لمتابعة التفاصيل التقنية للمشروع، وذلك بحضور عضو الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء في لبنان دانيال جحا. وأضاف: “من المرجّح أن نتوجه إلى البنك الدولي للمشاركة في إجراء دراسة الجدوى الاقتصادية، وبعد الموافقة عليها يبنى على الشيء مقتضاه. هذا المشروع يدخل ضمن خطة تنويع مصادر الطاقة، فنحن سنحاول تجنيب لبنان الاعتماد على مصدر واحد”.

 

مصدرالمدن - هاني عضاضة
المادة السابقةمكافحة التهريب تُثمر: الإيرادات الجمركيّة ترتفع بنسبة 105%
المقالة القادمةاستطلاع آراء عدد من النواب: مشروع موازنة 2026 بلا إنقاذ وبلا رؤية