أعلن رئيس الوزراء اللبناني الشهر الماضي أنه لن يكون بمقدور بلاده سداد الديون المستحقة بالعملة الأجنبية والبالغ قيمته 1.2 مليار دولار. البيانات الاقتصادية تبيّن أن تعثّر لبنان عن سداد ديونه كان حتميا. فالاقتصاد اللبناني كان يُعاني من مجموعة عوامل أهملتها الحكومات المتعاقبة بسبب الخلافات السياسية مما أدّى إلى تراكمها وتفاقمها ولم تعالج بشكل حقيقي وجذري. فما هي أهم هذه العوامل وبماذا تخبرنا البيانات الاقتصادية المتوفرة وكيف ساهمت قرارت السلطات المالية اللبنانية بانهيار العملة الوطنية؟
خلال الحرب الأهلية، انهارت قيمة الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي بشكل دراماتيكي، من 2.3 إلى أكثر من 1700 ليرة لكل دولار أميركي، ومن أجل الوصول إلى استقرار مالي، قررت الدولة اللبنانية تثبيت سعر صرف الليرة على نحو صارم أمام الدولار، ونجحت السلطات المالية في الوصول إلى هذا الهدف وبقي سعر الصرف ثابت بحدود 1500 ليرة للدولار الوحد منذ 1995.
إن الوصول إلى استقرار مالي ليس هدفاً بحد ذاته، إنما هو وسيلة لاستدامة النمو وخلق فرص العمل وإنماء التجارة الخارجية، ولإنجاح هذا النوع من سياسات الصرف، يجب أن تكون معدلات نمو مؤشرات أسعار الاستهلاك اللبنانية قريبة من نمو أسعار الاستهلاك الأميركية، وهذا ما لم يحدث، ذلك أن مؤشر أسعار المستهلك في لبنان ارتفع بنحو 123 في المئة خلال الفترة ما بين 1995 و 2018 مقارنة بارتفاع بلغ 64 في المئة للمؤشر نفسه، في الفترة الزمنية ذاتها في الولايات المتحدة، ما يشير إلى ارتفاع حقيقي وكبير في قيمة الليرة اللبنانية الأمر الذي أثّر بشكل كبير على فرص استدامة النمو وخلق فرص العمل وإدماج الاقتصاد اللبناني بالأسواق العالمية. للأسف، تجاهلت الحكومات المتعاقبة هذا الارتفاع ولم تقم قط بتقييم نظام سعر الصرف على الرغم من كونه وسيلة لتحقيق تنمية اقتصادية شاملة وليس هدفاً بحد ذاته.
فالبيانات تشير بشكل لا لبس فيه فشل السياسات التنموية الاقتصادية التي طبقتها الحكومات المتعاقبة بعد الحرب الأهلية. ففي خلال الفترة ما بين العامين 2011 – 2018، حقق الاقتصاد اللبناني نمواً بمعدل 1.4 في المئة، وهو أقل بكثير من معدل الزيادة السكانية البالغ 4 في المئة، ونتيجة لذلك تراجع مستوى نمو الدخل السنوي للمواطن اللبناني ليصل إلى ناقص 2.7 في المئة، وعلاوة على ذلك بلغ معدل البطالة بين الشباب نحو 17.3 في المئة، كما سجل الميزان التجاري عجزاً ملحوظاً بواقع ناقص 23.4 في المئة من إجمالي الناتج المحلي خلال الفترة نفسها.
وكنتيجة حتمية لغياب الانتاجية المستدامة، ارتفع حجم الدين العام بمقدار 155 في المئة من إجمالي الناتج المحلي لتكون الدولة اللبنانية من أكثر دول العالم مديونية في العالم بإستثناء اليابان فقط. وفي شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أصبح جلياً أن احتياط البنك المركزي من النقدي الأجنبي والبالغ قيمته 30 مليار دولار لم يعد كافياً للدفاع عن الليرة مقابل الدولار الأميركي وأن لبنان قد دخل فعلياً في أزمة مالية يصعب تخيّل مداها ونتائجها، خصوصاً على الفقراء ومحدودي الدخل من الشعب اللبناني.
اتخذت السلطات المالية عدداً من القرارات على ضوء الأزمة كان أهمها وضع قيود على سحب المودعين لأموالهم من المصارف، وفرض قيود صارمة على تدفقات رأس المال إلى الخارج، وتخفيض معدلات الفائدة مرتين، في كانون الأول/ ديسمبر وشباط/ فبراير، إلى 7.5 في المئة، وقد ساهمت هذه القرارات في تعجيل انهيار العملة الوطنية بشكل كبير بدل حمايتها ودعمها، فكيف حصل ذلك؟
على رغم من محدودية الاحتياط الأجنبي في البنك المركزي، استمرت السلطات المالية بالتعهد بالمحافظة على سعر الصرف الرسمي وفرضه على سحوبات المواطنين من المصارف. ولكن أسعار الصرف الفعلية في الأسواق كانت تبيّن ان السلطات تعمل القليل لمنع تدهور سعر الصرف. إن فقدان الثقة بقرارات السلطات المالية وعدم مصداقيتها وشفافيتها خلال الأزمات المالية التي مرّت بها العديد من الدول كان دائما ينعكس سلباً على أسعار الصرف. وهذا ما حدث مؤخرا في لبنان، إذ كانت عدم مصداقية وشفافية السلطات عامل أساسي لزيادة الطلب على الدولار وبالتالي انهيار سعر الليرة. ومن ناحية ثانية، أدّى قرار السلطات المالية بحجز أموال المودعين إلى نقص كبير بالدولار في الأسواق. وفي الوقت الذي تهافت الجميع فيه على شرائه، ساهم قرار السلطات هذا بزيادة الضغط على الليرة مما عجل بانهيارها وبشكل أكبر مما كان متوقعا.
كذلك، لم تراعي قرارات السلطات المالية أهمية المغتربين وحرية حركة الأموال (Capital Flow) في الاقتصاد الوطني. فالمغتربون اللبنانيون يشكّلون 80 في المئة من عموم الشعب اللبناني، وفي ظل غياب أي انتاجية حقيقية في بلد كلبنان، شكّلت تحويلاتهم المالية متنفساً أساسياً للاقتصاد الوطني. أن قرار السلطات منع حركة الأموال من لبنان أثر وسيؤثر بشكل مباشر وسلبي على تحويلات المغتربين الى لبنان. فالمغترب الذي احتجزت امواله في المصارف سيتردد كثيرا بعد ذلك بتحويل أي أموال الى المصارف اللبنانية. مما يعني ان السلطات أثّرت بشكل سلبي على أي تحويلات مالية ممكنة الى لبنان في وقت كان الاقتصاد الوطني في أمس الحاجة إلى تلك التحويلات وهو ما ساهم أيضاً في التراجع السريع لليرة أمام الدولار.
البروفسور محمد أبو هميا – أكاديمي ومستشار اقتصادي في المعهد العالي للدراسات الدولية والإنمائية – جنيف