يشير التعميمان الأساسيان 165 و 168 إلى أن إصدارهما جاء استجابة لحاجة ملحّة لتعزيز الشفافية المالية والامتثال التنظيمي، تماشياً مع التزامات لبنان الدولية. وقد عكس مصرف لبنان من خلال هذين التعميمين التزاماً جاداً بحماية النظام المصرفي من الاستغلال في عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وذلك عبر تبنّي سياسات وإجراءات رقابية أكثر صرامة وفعالية.
أحد أبرز العوامل التي دفعت إلى إصدار هذين التعميمين هو مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، لا سيما في ضوء أحكام القانون الرقم 44 لسنة 2015، الذي يشكّل الإطار القانوني الأساسي لهذا المجال. ومن خلال تعزيز التدقيق والرقابة على المؤسسات المالية، يسعى مصرف لبنان إلى منع استغلال القطاع المصرفي في أنشطة غير مشروعة، سواء عبر تحويل الأموال النقدية أو من خلال هياكل ملكية غير شفافة. كما يشكل التدقيق في هوية المساهمين تطوراً مهماً في عمل السلطة النقدية، إذ يتطلب التعميم التأكد من عدم إدراج أي مساهم أو مسؤول تنفيذي على قوائم العقوبات الدولية والوطنية. يمثل هذا الإجراء خطوة أساسية نحو الحد من المخاطر التشغيلية والقانونية التي قد تنشأ عن تعامل المصارف مع أفراد أو كيانات مشبوهة.
إلى جانب ذلك، يسلط التعميمان الضوء على أهمية الامتثال للقرارات الدولية، حيث ينصّان بشكل واضح على تنفيذ قرارات مجلس الأمن وتوصيات مجموعة العمل المالي – فاتف (FATF). يعكس ذلك التزام مصرف لبنان بالمعايير العالمية ويؤكد حرصه على الحفاظ على استقرار لبنان في النظام المالي الدولي، لا سيما من خلال تفادي العقوبات أو إدراجه في قوائم الرقابة الدولية. ومن خلال تعزيز الرقابة وإدارة المخاطر، يلزم مصرف لبنان المؤسسات المالية بتقديم تقارير تفصيلية عن المساهمين وكبار الإداريين، مما يتيح له تقييم المخاطر المرتبطة بهياكل الملكية والتأكد من عدم وجود تأثيرات غير مشروعة قد تضر بسلامة النظام المصرفي.
أما في ما يتعلق بالإجراءات التنفيذية، فإن الإنفاذ القانوني والتنظيمي يشكّل أحد أبرز ركائز هذين التعميم، حيث تتضمّن متطلبات الامتثال الصارمة إمكانية إلغاء ترخيص المؤسسات المالية غير الملتزمة. يعكس ذلك توجهاً أكثر صرامة من قبل مصرف لبنان لتطبيق القوانين والمعايير التنظيمية، كجزء من جهود أوسع لتعزيز الحوكمة والمساءلة داخل القطاع المصرفي.
التعميم الأساسي الرقم 165 تاريخ 9 نيسان 2023 – تنظيم عمليات التسوية النقدية الإلكترونية
يشكّل هذا التعميم خطوة رئيسية نحو تنظيم عمليات التسوية والمقاصة الإلكترونية، مما يعزّز الرقابة على حركة الأموال النقدية ويضمن تحسين الشفافية المالية. من خلال فرض التزام المصارف العاملة في لبنان بفتح حسابات مخصّصة لهذه العمليات في مصرف لبنان، يضمن التعميم بيئة مصرفية أكثر أماناً واستقراراً، تقلّل من إمكانية استغلال التحويلات النقدية في عمليات مشبوهة.
كما أن وضع معايير وضوابط دقيقة لعمليات تحويل الأموال النقدية (Banknotes) يسهم في منع تسلل الأموال غير المشروعة إلى النظام المالي، لا سيما من خلال اشتراط توفر المؤونة الكافية في الحسابات لضمان شفافية التسويات المالية.
ومن بين الإجراءات المهمة التي يتضمنها التعميم منع إصدار الشيكات المصرفية على الحسابات الخاصة بالتحاويل النقدية، باستثناء تلك المخصصة لدفع الضرائب والرسوم العامة. يهدف هذا الإجراء إلى الحد من إساءة استخدام الشيكات كأداة لإخفاء تدفقات الأموال المشبوهة، مما يعزّز الضبط المالي ويحدّ من مخاطر التلاعب في النظام المصرفي.
التعميم الأساسي الرقم 168 تاريخ 4 حزيران 2024 – الإفصاح عن المساهمين والإداريين في المؤسسات المالية
يأتي هذا التعميم في إطار التزام مصرف لبنان بتعزيز الشفافية المالية، حيث يفرض على المصارف والمؤسسات المالية الإفصاح عن المالكين الفعليين، مما يحول دون استخدام شركات وهمية أو أسماء مستعارة لإخفاء أموال غير مشروعة.
يُلزم التعميم جميع المؤسسات المالية بتزويد مديرية الشؤون القانونية في مصرف لبنان بقوائم مفصلة للمساهمين الذين يمتلكون أكثر من 5% من الأسهم، إلى جانب أعضاء مجالس الإدارة وكبار التنفيذيين. كما يحتفظ مصرف لبنان بحق طلب معلومات إضافية عن المساهمين الذين يملكون أقل من 5% من الأسهم، خاصة إذا كانت هناك شبهات حول ملكية غير شفافة.
وتشمل آليات الرقابة المدرجة في التعميم إجراء عمليات تحقق دورية لضمان أن الأسماء الواردة ليست مدرجة على قوائم العقوبات الأممية والدولية. يعزّز هذا الإجراء الضوابط الوقائية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، كما يوفر للمصارف العاملة في لبنان آليات أكثر أماناً لتحديد المخاطر المرتبطة بمساهميها.
توافق التعاميم مع المعايير
تأتي هذه التعاميم كجزء من جهود مصرف لبنان للامتثال لمتطلبات مجموعة العمل المالي، خاصة في أعقاب خطر إدراج لبنان على القائمة الرمادية والذي أصبح لاحقاً حقيقة، مما يجعل من الضروري اتخاذ خطوات ملموسة لاستعادة ثقة المجتمع المالي الدولي وتقليل المخاطر المرتبطة بالقطاع المصرفي. وقد أشار حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري إلى أن قرار مجموعة العمل المالي لم يتضمّن أي ملاحظات سلبية بشأن أداء مصرف لبنان، بل كان التقصير بأغلبيته ناتجاً عن ضعف أداء الطبقة السياسية وعدم تنفيذ الإصلاحات الهيكلية المطلوبة. ويتماشى التوجه نحو التسويات الإلكترونية المنصوص عليه في التعميم 165 مع توصيات “فاتف” التي تؤكد ضرورة تقليل الاعتماد على النقد في التبادل التجاري داخل لبنان، نظراً إلى أن التعاملات النقدية تشكل بيئة خصبة لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب بسبب صعوبة تتبعها. من خلال تعزيز استخدام أنظمة الدفع الإلكتروني والحد من حركة الأموال النقدية داخل القطاع المصرفي، يسعى مصرف لبنان إلى تقليل الهشاشة المالية التي يمكن أن تستغلها شبكات الجريمة المنظمة.
على الجانب الآخر، يعكس التعميم 168 التزام مصرف لبنان بالشفافية المالية من خلال فرض إفصاح إلزامي عن المساهمين الحقيقيين وأصحاب الحق الاقتصادي. هذه الخطوة ضرورية لضمان عدم استغلال النظام المصرفي لإخفاء مصادر الأموال المشبوهة عبر شركات واجهة أو ملكيات مخفية. فالمؤسسات المالية العالمية باتت أكثر حرصاً على التعامل فقط مع جهات مالية تلتزم بالإفصاح الكامل عن هوية المالكين الفعليين، وهو ما دفع “فاتف” إلى التشديد على هذه المعايير لضمان عدم تسلل الأموال غير المشروعة إلى النظام المالي العالمي. ومن زاوية أوسع، فإن هذه التعاميم تساعد على تحسين تصنيف لبنان المالي، حيث إن أحد المعايير الأساسية للخروج من القائمة الرمادية هو قدرة الدولة على تنفيذ إصلاحات مالية وقانونية تضمن التزامها الفعلي بتوصيات المجموعة، وليس فقط إصدار قوانين أو تعاميم غير مفعّلة. وقد شدّد منصوري على أن التحدّي الحقيقي أمام لبنان لا يكمن فقط في قدرة مصرف لبنان على تنفيذ هذه الإصلاحات، بل في الالتزام السياسي العام بتنفيذ التعديلات القانونية المطلوبة، لا سيما في ما يتعلق بتشريعات مكافحة الفساد والحوكمة المالية.
تصنيف لبنان وعلاقاته الدولية
إن إدراج لبنان على القائمة الرمادية فرض قيوداً مصرفية وتجارية دولية تأثر بها لبنان سلباً في تعاملاته المالية مع المصارف الأجنبية، لا سيما في ظل تزايد متطلبات الامتثال الدولية. وتعدّ الإجراءات التي اتخذها مصرف لبنان خطوة ضرورية ولكن غير كافية وحدها للخروج من هذه القائمة، إذ يتطلب ذلك تنفيذ الدولة اللبنانية لمجموعة من الإصلاحات التشريعية، مثل:
● تحديث قوانين مكافحة الفساد وتبييض الأموال لضمان تطبيق معايير الامتثال على جميع القطاعات وليس فقط القطاع المصرفي.
● تعزيز استقلالية القضاء المالي ليكون قادراً على ملاحقة الجرائم المالية بفعالية، وفقاً لما طلبته المجموعة.
● إقرار تشريعات تضمن استقلالية الهيئات الرقابية، مثل هيئة التحقيق الخاصة والهيئات المشرفة على القطاع المصرفي.
وقد أكد منصوري أن مصرف لبنان التزم بكل الإصلاحات التقنية والرقابية المطلوبة منه، لكن المعركة الأوسع تتعلق بإرادة الطبقة السياسية في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة دولياً، وهو ما يشكل العقبة الأساسية أمام تحسين وضع لبنان المالي.
في النهاية، وعلى الرغم من الجهود التي بذلها مصرف لبنان عبر هذه التعاميم، فإن نجاحها يعتمد على التكامل مع إصلاحات تشريعية وسياسية أشمل، تكون كفيلة بإعادة ثقة المؤسسات المالية العالمية بلبنان وإخراجه من القائمة الرمادية، وهو ما يتطلب تحركاً فورياً من قبل السلطات التنفيذية والتشريعية لضمان تنفيذ التوصيات الدولية بشكل كامل وفعّال.
التحديات المتبقية
على الرغم من أهمية هذه الإصلاحات، يبقى نجاحها مرهوناً بقدرة مصرف لبنان على تنفيذها بفعالية. فمن دون رقابة صارمة، قد تبقى بعض الثغرات قائمة، مما يسمح لبعض الجهات بالتحايل على الأنظمة المالية. كما يتطلب نجاح هذه الإصلاحات إجراءات قانونية موازية، تشمل تحديث قوانين مكافحة الفساد وتعزيز آليات الإنفاذ لضمان الامتثال الصارم. إلى جانب ذلك، فإن التزام الحكومة اللبنانية بتوفير بيئة تنفيذية داعمة لهذه القواعد سيكون عاملاً أساسياً في نجاحها. فلا يمكن تحقيق الاستقرار المالي من دون إطار قانوني وتنظيمي واضح يضمن فعالية التنفيذ. التعميم 165 يعزّز الرقابة على الأموال النقدية ويشجع التحوّل إلى أنظمة الدفع الإلكترونية، مما يحدّ من مخاطر التلاعب المالي وتبييض الأموال. والتعميم 168 يعزّز الشفافية في الملكية المصرفية، ويمنع استغلال المؤسسات المالية كواجهات لتبييض الأموال أو تمويل الإرهاب. في الواقع، التعميمان متوافقان مع توصيات مجموعة العمل المالي، ويشكلان خطوة إيجابية نحو تحسين تصنيف لبنان المالي واستعادة الثقة في قطاعه المصرفي. ويتوجب على مصرف لبنان تعزيز آليات التنفيذ والرقابة لضمان التزام المؤسسات المالية بهذه الإصلاحات ومنع أي محاولات للتحايل عليها، مما يسهم في حماية القطاع المصرفي من المخاطر المالية، وتعزيز موقع لبنان في النظام المالي الدولي.