في نهاية الشهر الماضي، أجاب حاكمُ مصرف لبنان النائبَ ملحم خلف على مراسلة كان قد وجهها إليه في وقت سابق، معلنًا أن احتياطي الذهب الموجود بحوزة مصرف لبنان يُقدّر بـ9,222,437.73 أونصة. من أصل هذه الكميّة، ثمّة 5,514,734.6 أونصة مخزّنة محليًّا لدى مصرف لبنان، فيما يودع المصرف المركزي الكميّة المتبقة (أي 3,707,703.13 أونصة) في الولايات المتحدة الأميركيّة.
تفصيل مكان المخزون لأوّل مرّة
المراسلة المكتوبة أكّدت -وبشكل خطّي موثّق للمرة الأولى- أنّ نحو 40% من مخزون الذهب الذي يملكه لبنان موجود في الخارج، بينما يحتفظ بالـ60% الباقية محليًّا في مستودعات المصرف المركزي. وهذه الحقيقة، جاءت مخالفة لجميع التكهّنات الإعلاميّة السابقة، التي لطالما أشارت إمّا إلى وجود ثلثي المخزون في الخارج وثلثه في لبنان، أو إلى وجود ثلثه في الخارج وثلثيه في لبنان. مع الإشارة إلى أن كيفيّة توزّع مخزون الذهب ظلت مسألة غامضة لطالما أحاطها حاكم المصرف المركزي بالكثير من السرية، إلى حد إعلان العديد من أعضاء المجلس المركزي السابقين أنّهم لم يعرفوا يومًا كيفيّة توزّع هذا المخزون بين لبنان والخارج طوال مدّة ولايتهم (ومنهم على سبيل المثال مدير عام الماليّة السابق آلان بيفاني).
من الناحية العمليّة، تبلغ قيمة أونصة الذهب في السوق العالميّة اليوم نحو 1,812$، ما يعني أن المخزون الذي أشار إليه الحاكم من الأونصات يُفترض أن تقارب قيمته الـ16.7 مليار دولار. وهذا المبلغ تحديدًا هو ما يظهر في بند الذهب الموجود حاليًّا في ميزانيّة المصرف المركزي النصف شهريّة، التي أعلن عنها مصرف لبنان منذ أربعة أيام (في نهاية شهر حزيران)، وهو ما يجعل بيان الحاكم مطابقًا للميزانيّة المنشورة. مع الإشارة إلى أن قيمة مخزون الذهب انخفضت خلال الشهر الماضي بنحو 356 مليون دولار (من 17.08 مليار دولار إلى 16.7 مليار دولار)، نتيجة انخفاض أسعار المعدن الأصفر عالميًّا. وهذا الانخفاض جاء مدفوعًا بارتفاع الفوائد الأميركيّة، وقيام روسيا ببيع كميات من احتياطي الذهب الموجود لديها.
استعادة الذهب من الخارج
حتّى اللحظة، لم يبادر مصرف لبنان أو أي من الحكومات المتعاقبة إلى البحث في إمكانيّة استعادة الذهب الموجود في الخارج، بالنظر إلى المخاطر التي تحيط بوجوده كوديعة في مؤسسات أجنبيّة، وخصوصًا في ظل الأزمة الماليّة القائمة اليوم. مع الإشارة إلى أنّ هذه المخاطر تتلخّص ببساطة في إمكانيّة محاولة حملة سندات اليوروبوند، أو دائني مصرف لبنان، وضع اليد على هذا الذهب، من خلال دعاوى يمكن القيام بها في المحاكم الأجنبيّة.
من ناحية حملة سندات اليوروبوند، يحصّن مصرف لبنان نفسه حتّى اللحظة بفكرة وجود هذا الذهب من ضمن ميزانيّته الخاصّة، المنفصلة عن ميزانيّة الدولة اللبنانيّة وموجوداتها، وهو ما يُفترض –حسب هذه الحجّة- أن يمنع حملة سندات اليوروبوند من محاولة وضع اليد على الذهب مقابل الالتزامات المترتبة على الدولة اللبنانيّة. إلا أن هناك من يخشى اليوم من محاولة الدائنين إثبات أن المصرف المركزي استخدم احتياطاته خلال الفترة الماضية لتمويل نفقات يُفترض أن تتحمّل عبئها الدولة اللبنانيّة، من أجل القول بأن هذه الاحتياطات –التي يمثّل الذهب جزء منها- لم تعد تُستعمل من ضمن المهام التقليديّة للمصارف المركزيّة.
أما الخشية الأكثر، فهي من محاولة دائني مصرف لبنان نفسه –ومنهم المصارف التجاريّة للمناسبة- رفع دعاوى يمكن أن تحاول المس بمخزون الذهب الموجود في الخارج، مقابل الالتزامات المترتبة على المصرف المركزي. مع الإشارة إلى أن المصارف أظهرت أساسًا –من خلال المراسلة الأخيرة مع صندوق النقد والتي تراجعت عنها لاحقًا- اهتمامها بمخزون الذهب، بل واستهدافها استعمال هذا المخزون لإطفاء خسائر القطاع المصرفي. وهنا بالتحديد، تصبح مهمّة وضع اليد على الذهب من قبل دائني مصرف لبنان، أسهل من مهمّة وضع اليد عليه من قبل دائني الدولة اللبنانيّة.
لكل هذه الأسباب، تتزايد المخاطر التي يُفترض أن تدفع الدولة اللبنانيّة أو مصرف لبنان إلى محاولة نقل هذا المخزون، أو جزء منه على الأقل، إلى الأراضي اللبنانية، للحؤول دون أي مساس بملكيّته، أو وضع إشارات قانونيّة على ملكيّة مصرف لبنان لهذا الذهب. مع العلم أن تجارب سابقة لدول أخرى تُثبت أن عمليّة استعادة الذهب قد لا تكون نزهة يسيرة، إذ احتاجت ألمانيا على سبيل المثال إلى خمس سنوات لاستعادة مخزونها من الذهب، من مواقع تخزينه في نيويورك وباريس، حيث تمّت العمليّة بعد مفاوضات شاقّة وعلى دفعات عديدة بين عامي 2013 و2017، فيما بلغت قيمة الذهب موضوع العمليّة نحو 30 مليار دولار.