بيروت اليوم هي واحدة من أسوأ المدن على وجه الأرض من حيث توفّر الإسكان ميسور التكلفة، هذا ما جاء في تحليل نشره موقع «البديل» للكاتبة روزابيل كراين، وفي ما يلي أبرز ما جاء فيه (بتصرف): فبعدَ النظر إلى متوسط الدخل بالنسبة إلى أسعار السكن في 332 مركزاً حضرياً في أنحاء العالم، احتلت العاصمة اللبنانية المرتبة 327 من حيث قدرة ساكنيها على تحمل التكاليف وفقاً لأرقام صادرة في حزيران من قبل نومبيو (Numbeo)، وهي قاعدة بيانات توفّر معلومات عن تكلفة المعيشة وظروف الإسكان في مدن مختلفة. يسجّل هذا الإحصاء تراجعاً كبيراً في سهولة الحصول على مأوى بقيمة ميسورة في بيروت، فضلاً عن الأزمة الاقتصاديّة المستمرّة التي حالت دون تحقيق ذلك في تصنيفات ما يقرب من 50 مركزاً مقارنةً بعام 2019. وشهدت الأزمة أيضاً انهيار قيمة الليرة اللبنانية، وتزايد مطالبة أصحاب العقارات والملّاك أن يكون الإيجار بالدولار، مما يمنع العديد من المستأجرين الذين لا يجنون إلّا الليرة اللبنانية أن يبقوا في منازلهم. هذا في الوقت الذي توجد فيه الآلاف من الشقق الفارغة في جميع أنحاء المدينة، مما يتسبب في ندرةٍ مصطنعة في سوق الإيجار.
خيارات مدروسة
وإذا كان كلّ من التهور والجشع وعدم الكفاءة من جانب النخبة السياسية والمالية في لبنان قد مهد الطريق للانهيار الاقتصادي للبلاد في عام 2019، فإن أزمة السكن الحاليّة ليست مصادفةً. والواقع أن الصعوبات السكنية المتصاعدة التي عانى منها اللبنانيون على مدى أكثر من عقدين هي نتيجة لخيارات سياسية مدروسة. فقد أعطت الحكومات المتعاقبة الأولوية لتجميع الثروة بين الأثرياء على حساب مسؤولية الحكومة المنصوص عليها قانوناً لضمان سكن مناسب وبأسعار معقولة للمواطنين.
تشابك المصالح
وكانت المصالح المتشابكة للسياسيين والمستثمرين العقاريين أساسية لهذه الديناميكية. ولعلّ المثال الأكثر شهرة على ذلك كان إساءة استخدام مجلس الإنماء والإعمار للتعاقد مع شركة (سوليدير) لإعادة بناء وسط بيروت بعد انتهاء الحرب الأهلية. إضافةً إلى أن الطبقة السياسية ككلّ تمتلك كمَّا هائلاً من العقارات، وقد قامت بصياغة لوائح حكومية لتسهيل الحصول على أقصى العوائد من استثماراتها العقارية. فلم يتم أخذ المساحات الخضراء بعين الاعتبار، ولا صلاحية المناطق الحضرية أو ما إذا كان عموم المواطنين اللبنانيين قادرين على تأمين سكن ملائم في ظل هذه التطورات الجديدة أم لا.
منتج استثماري
إن التحول من رؤية الإسكان على أنه سلعة اجتماعية إلى تقييمه بكونه منتجاً استثمارياً مضارباً هي نزعة عالمية غالباً ما يطلق عليها اسم “أمولة” العقارات. وحددت الحكومات في العالم هذه الديناميكية باعتبارها من بين أكبر التهديدات للإسكان الميسور التكلفة، مع اتخاذ العديد من الخطوات لمحاولة الحد من أضرارها وإعادة تأكيد الوظيفة الأساسية للإسكان في المجتمع، أي توفير المأوى. وعلى مدى سنوات ضاعفت الحكومة اللبنانية من جهود البحث عن الربح في العقارات في كل فرصة تقريباً مما أدى إلى تفاقم أضرار الأمولة بدلاً من تخفيفها. لقد أدت الأزمة الاقتصادية التي اندلعت في البلاد في عام 2019 إلى اضطراب الوضع الراهن على نطاق واسع في القطاعين العام والخاص، بينما تُرك المواطنون اللبنانيون ليتحملوا وطأة التداعيات. إلّا أنّ الخبراء اليوم يشيرون إلى أنّ الفوضى تمثل فرصةً لإعادة صياغة سياسة الإسكان العام. فإذا تم اغتنام هذه الفرصة، وعندما تنحسر الأزمة في نهاية المطاف، فيمكن أنّ تظهر بيئة إسكان أكثر إنصافاً وأكثر استجابة لحاجات المجتمع.
ضريبة الشغور
ومن بين الخطوات التي يمكن اتباعها في ظل وضع الأساسيات لهذا التحول يمكن اقتراح تطبيق “ضريبة الشغور”. تشير بعض الإحصاءات إلى أنّ أكثر من نصف الشقق الفارغة في بعض مناطق بيروت، تمثل جزءاً من مخططات استثماريّة للناس في أجزاء أخرى من البلد، لهذا فإن فرض الضرائب على هذه الأملاك من شأنه أن يحفز المالكين على عرضها في السوق، مما سيزيد من مخزون السكن، ويساعد على خفض الأسعار، وربما سيساهم أيضاً في جعل بيروت مدينة أكثر ملاءمة للعيش من خلال السماح لمزيد من الناس بأن يسكنوا بالقرب من مكان العمل أو الدراسة.
تحصيل قيمة الأرض
يجب أيضاً تبنّي استراتيجيات تحصيل قيمة الأرض (LVC) في التخطيط الحضري. إنّ الفكرة الأساسية لـ(LVC)، وهو مفهوم يكتسب زخماً في جميع أنحاء العالم، هو أن الإيرادات العامة من التنمية الخاصة مثل الضرائب والرسوم والتصاريح يجب أن تتحول لتصبّ في مشاريع البنية التحتية الحضرية. وبهذه الطريقة يتم توفير وسيلة للاستفادة من التنمية الخاصة من خلال تحسين الطرق والحدائق ومبادرات الإسكان الاجتماعي وما شابه ذلك.
سياسات أخرى
تحتاج بيروت أيضاً إلى استراتيجية سياسيّة حضرية لمعالجة العديد من المباني المهجورة والمتداعية فيها. تقوم العديد من المنظمات المحلية والدولية بالفعل بفحص أفضل السبل لإعادة تأهيل هذه الهياكل للمساعدة في زيادة المخزون السكني الميسور التكلفة المتاح في السوق، لهذا فإنه من الضروري على الحكومة أن تساعد في قيام هذه الجهود والبناء عليها.
يجب أيضاً إضفاء الطابع الرسمي على سوق الإيجار وتنظيمه. إذ إنّ نمو اتفاقيات الإيجار غير الرسمية والاتجاه المتزايد لمخالفة أصحاب العقارات للشروط المنصوص عليها في الاتفاقيات الموقعة، يجبران أعداداً متزايدة من اللبنانيين على العيش في ظروف معيشية غير مستقرة. لهذا يجب عكس هذا التوجّه، وأن تتضمن اللوائح الجديدة أيضاً معايير للسكن الملائم وسقوفاً لأسعار الإيجارات.
يجب أيضاً أن تكون هناك حاجة للتطويرات العقارية الجديدة لتخصيص جزء من الشقق لتوفير سكن ميسور التكلفة. فإن فرض اللوائح على التطورات الجديدة التي تلزمهم (أي أصحاب هذه العقارات) بتخصيص عدد معين من الشقق بأسعار مقبولة، وفقاً لمعايير اجتماعية واقتصادية محددة مسبقاً، هو وسيلة مباشرة لزيادة توفير الإسكان الاجتماعي.