قد يكون قرار وكالة التصنيف الإئتماني “فيتش” الأول من نوعه منذ بداية الأزمة في لبنان، لكنه لن يكون الأخير. فالأسباب التي دفعت الوكالة إلى إعلان التوقف عن تغطية لبنان بالتحليلات المالية والتقييمية ستدفع باقي الوكالات حتماً إلى النتيجة نفسها.
الوكالة أشارت إلى عدم وجود الداتا الأساسيّة التي تحتاجها في عملية التحليل المالي للبنان، وتصنيفه ائتمانياً على غرار باقي الدول. وأشارت إلى أن الدولة اللبنانية توقفت عن نشر “الحسابات القوميّة” وتقارير الماليّة العامّة. وهنا يكمن جوهر الأزمة. فما هي الأسباب الكامنة وراء تخلّف الدولة اللبنانية عن إصدار التقارير المالية وتوفير “الداتا” اللازمة للتقييم المالي؟ وما هو تأثير ذلك على المالية العامة عموماً؟
عجز وليس تخلف
المسألة ليست بعدم إصدار التقارير المالية من قبل وزارة المال، ولا بتخلّفها عن توفير “الداتا”، إنما بعجزها فعلياً عن توفير تلك المعلومات. فوزارة المال لم تعد قادرة تقنياً على توفير البيانات المالية منذ عام 2019 وحتى اللحظة. وهو ما يساهم في إبعاد لبنان أكثر فأكثر عن معايير الشفافية المالية، التي من شأنها أن توثّق روابطه مع المؤسسات الدولية.
وحسب مصدر رفيع في وزارة المال، فإن الأقسام التي تتولى المهام الدقيقة في وزارة المال باتت شبه فارغة. ويقول إن “الوزارة فقدت الغالبية الساحقة من كادرها البشري بعد تفجّر الازمة عام 2019″. لافتاً إلى أن العاملين في الدوائر الأكثر الأهمية كالمعلوماتية والضرائب كانوا يتمتّعون بخبرات عالية جداً، وقد تلقوا عروض عمل من القطاع الخاص داخل وخارج لبنان. وبالنظر إلى ما عانوه منذ بداية الأزمة من تردي في قدراتهم المعيشية، خرجوا من الوزارة.
وإذ يؤكد المصدر الخسائر الفادحة للوزارة بالكوادر البشرية، يقول إن المالية فقدت قدرتها على إعداد البيانات المالية، ونشر التقارير التي كانت تنشرها في السنوات السابقة، قبل العام 2019، والتي كانت تعتمد فيها على أرقام الخزينة بشكل اساسي. اليوم لم يعد هناك من تقارير مالية شهرية. كما أن قطوعات الحساب لا تُدقق ولا تنشر في الوقت الحالي.
من هنا تواجه وزارة المال اليوم تحدّياً كبيراً في بناء القدرات البشرية، وتوفير إمكانيات لجذبها وتدريبها. لكن هذه الورشة تستلزم ما لا يقل عن 10 سنوات، على ما يقول المصدر. فالكادر البشري المتخصص بالمالية والموازنة ليس متاحاً بسهولة، والمسألة ليست مسألة توظيف، إنما مسألة تدريب وبناء خبرات.
الاستعانة بمتطوعين
استعانت وزارة المال بمتطوعين يقارب عددهم 60 متطوعاً ومتطوعة، من الفئات الشابة، بدعم من برنامج القيادات الشابة (YLP)، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. يقدّم المتطوعون الدعم التقني لوزارة المالية. وقد تم توزيعهم على عدة مديريات في الوزارة، بما في ذلك مديريات الواردات والخزينة والمحاسبة العامة. وتم تكليفهم بمهام متنوعة بما في ذلك إدخال البيانات وترتيب الملفات والأرشفة والفرز ومقارنة الأرصدة، إضافة إلى مهام أخرى بدءاً من شهر آب من العام 2023.
وقد كان لعمل الكادر البشري المتطوع أثر مهم في إعادة تفعيل الوظائف الأساسية في الوزارة، مثل التسريع في عملية جباية الإيرادات، كضرائب الأملاك المبنية، التي لم تُحصّل منذ عام 2018. كما ساهم أيضاً في تسريع عمل المحاسبة العامة، من خلال العمل على إغلاق حسابات للسنوات الثلاث الماضية. ومن خلال هذه المبادرة، تم تخصيص حوالى 5820 ساعة تطوعية خلال شهري تموز واب، وإنجاز أكثر من 32 ألف معاملة إدخال معلومات.
تلك المبادرات والمساعي قد تخفف من حدة النقص البشري بالوزارة، لكنها لا يمكن أن تؤمن الاستمرارية لعملية إصدار التقارير المالية، وتدقيق قطوع الحساب. كما لا يمكن توفير الـ”داتا” الضريبية كما كان الحال قبل العام 2019. ويؤكد المصدر أن الإدارة الضريبية على سبيل المثال، وهي التي تميّزت بمهنيتها في السابق، وكانت السبّاقة بين الدول العربية، وحازت على جوائز من الأمم المتحدة للخدمة العامة، في سنوات ما قبل الأزمة، تعرّضت لخسارة بشرية فادحة. كما لم يعد هناك من آلية دقيقة لتفادي الجرائم الإلكترونية والتزوير، ولم يعد هناك تدقيق داخلي ممنهج لسجل المكلفين وغير ذلك الكثير من النواقص في المالية، على ما يقول المصدر.
ويختصر الأزمة بالقول إن الدولة اللبنانية خسرت استثمارها بالكوادر البشرية الذي أسسته على مدار 15 عاماً، واسترجاعه يستلزم ما لا يقل عن 10 سنوات وربما 20 سنة، لاسيما أن هناك مهام تقنية دقيقة ترتبط بالمحاسبة العمومية وإدارة الدين والموازنة، لا يمكن إنجازها إلا من خلال كوادر بشرية ذات خبرات عالية ومدرّبة على مدى طويل.