بدأت شركة “هاليبترون” إجراءات إقفال البئر Qana 31/1 الذي جرى حفره في البلوك رقم 9 وكلّف أكثر من 100 مليون دولار، وذلك بعدما فشلت عملية الحفر في اكتشاف كميات تجارية من الغاز فيه. هذا يعني أن كل ما بُنيَ سابقاً من معلومات وتقديرات حول “مخزون قانا الواعد” كان كذباً بكذب أو على الأقل لم يكن يرتكز إلى معطيات علمية واضحة. أمّا بالنسبة إلى المعلومات التي جرى تداولها خلال نهاية الأسبوع الماضي من قبل أكثر من مصدر حول إبلاغ “توتال” الدولة أنها تراجعت عن المعطيات “المغلوطة” التي قدمتها حول البئر وأنها استأنفت أعمال الحفر فيه، فإنها “غير صحيحة”. وقالت مصادر معنية في وزارة الطاقة لـ”ليبانون ديبايت” إن ما جرى فعلاً، هو عبارة عن طلبٍ تقدمت به هيئة إدارة قطاع البترول من الشركة من أجل الحصول على “عينات من داخل البئر” بهدف إجراء دراسات عليها، وهو ما لبّته الشركة فعلاً. فأخذت العينات وقدمتها وختمت أعمالها.
في المطلق، إقفال البئر في “قانا”، يعني مغادرة منصة الحفر بعد أيام قليلة وتجميد شركة “توتال” قائد “الكونسورتيوم” أنشطتها في المنطقة إلى أجلٍ غير مسمى، والأسوأ يتصل في ما علمه “ليبانون ديبايت” من أن “حقل قانا المحتمل” في صدد أن يتحول إلى “موقع قانا” في إشارةٍ إلى انتهاء دوره.
مثل هذه النتيجة تحتّم، حين انتهاء الأزمة الحالية ومعركة “طوفان الأقصى”، إجراء ما يمكن تسميته تقييماً من أجل استخلاص العبر، وفتح نقاش جدي حول نقاط أساسية لا بدّ من حصولها، على رأسها إجراء تحقيق واضح وشفاف حول الدوافع التي أملت على “توتال” تحديد نقطة الحفر في البلوك 9 بموقع حقل “قانا”، وإلى أي سبب علمي إرتكزت، ومدى وجود ضغوطات سياسية لبنانية دفعت صوب فرض الموقع، علماً أن المسوحات الزلزالية ثلاثية الأبعاد التي لا بدّ أن تكون أساساً في اختيار موقع الحفر لم تشمل”قانا” قط. وكشفت مصادر “ليبانون ديبايت” عن اتهامات متبادلة بين المعنيين في الملف، حول من يتحمل مسؤولية تحديد نقطة الحفر في الموقع بصفتها سبباً رئيسياً أدى إلى هذه النتيجة، مع جنوح البعض صوب تقدير أن التحديد بالشكل الذي حصل فيه كان “خطأ تقنياً” وجاء بمفاعيل سياسية نتيجة ما يسمى “معادلة قانا”.
الأمر الثاني الذي لا بدّ من بحثه يتصل بموضوع الخط 23. فعندما حصل الإتفاق على ترسيم الحدود البحرية مع العدو الإسرائيلي برعاية أميركية، كان من بين الأسباب الموجبة وجود حقل غاز محتمل وواعد عابر للحدود. وقامت استراتيجية الترسيم في مرحلتها الأخيرة عليه. والآن وبعدما اكتُشف أن لا شيء إسمه “حقل” وأنه لا يحتوي غازاً بل أسماك، لا بدّ من إعادة النظر في خط الحدود وفي مرحلة ثانية إتفاقية الترسيم برمتها! ولا يُعتقد أن “حزب الله” المنشغل حالياً في معركة “طوفان الأقصى”، سيبقى بعيداً عن إجراء عملية تقييم شاملة حول ما جرى.
غير أن ذلك وعلى أهميته، يخفي أحداثاً لا تصبّ في خدمة الإستراتيجية اللبنانية القائمة على البحث عن الغاز من أجل توفير سيولة للبلاد. فالنتائج المحصّلة في “قانا”، لم تأتِ في خدمة مستقبل استكشافات الغاز في لبنان وأرست أجواءً لا تشجع الشركات على الإستثمار. من جانبٍ آخر، أرخت النتائج ظلالاً من الشك حول إمكانية معاودة أعمال اكتشاف الغاز اللبناني بالنسبة إلى الكونسورتيوم الحالي، وسط تقديرات بأن ذلك لن يحصل قبل عام على الأقل نظراً للإعتبارات التقنية المعقدة وضرورة انتظار استراتيجيات الشركات وخططها للعام المقبل، أو قد لا يحصل في المدى المنظور في حال الأخذ بالوضع العسكري الراهن في المنطقة، وارتفاع مؤشر المخاطر بالنسبة إلى الشركات العاملة في هذا المجال والزيادات المتوقعة في عقود التأمين، واتخاذ بعض الشركات قرارات إمّا بتجميد أعمال التنقيب أو الإنتاج كما حصل في حقل “تامار” الإسرائيلي، والمؤشرات المرتبطة بأن ما سيأتي من مفاعيل لـ”طوفان الأقصى” سيضع المنطقة في وضعية صراع مختلفة وإن غاز المتوسط سيكون على رأس الضحايا.
ثمة أمر آخر يتصل بوضعية البلوك رقم 9 بعد النتائج الحالية. هذا يرتبط بالفحوصات التي ستجريها “توتال” على العينات التي جرى أخذها سلفاً من البئر. يحتاج ذلك بحسب خبراء، من 3 إلى 4 أشهر لتقدير النتائج وإصدار التقرير النهائي. في ضوء ذلك يبقى لـ”توتال” وحدها تقرير ما إذا كانت تنوي الإستمرار في البلوك 9 أو الإنتقال إلى البلوك 8 (أو 10) ربطا بأنها تقدمت إلى دورة التراخيص الأخيرة. وفي حال قرّرت “توتال” البقاء، فإن ذلك يحتاج إلى معاودة التفاوض مع الدولة من أجل الإتفاق على حفر بئر ثانٍ، والأهمّ أنه يحتاج إلى حكومة أصيلة، ما يعني قذفنا إلى ما بعد انتخاب رئيس للجمهورية! أمّا في حال حصول الإتفاق، فعلى “توتال” وضع تأمينٍ على البئر ومن ثم تبدأ إجراءاتها التقنية من استدراج عروض من قبل “مزوّدي خدمات الحفر” وصولاً إلى إجراء مسح بيئي والإستحصال على رخصة حفر، وهذا يحتاج إلى عام ونصف العام على أقل تقدير. أمّا في حالة خروج “توتال” من البلوك 9 فيعود تلقائياً إلى كنف الدولة اللبنانية التي في مقدورها إعادة طرحه في دورة تراخيص مستقبلية.
في النهاية لا بدّ من العودة للتاريخ. ففي 13 تشرين 1989 أعلن قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون حربه على القوات السورية، لتنتهي بانكسار الجيش ولجوء عون إلى باريس. في 13 تشرين الأول 2020 أعلن عون بصفته رئيساً للجمهورية إنطلاق مفاوضات الترسيم إبتداءً من الخط 29 ليعود لاحقاً وينفض يده منه ويُسقط الخط. ولسخرية القدر، أُعلن في 13 تشرين الأول 2023 عن عدم العثور على غاز في حقل “قانا”، ليضاف انكسار آخر إلى القائمة!