في زيارة أخيرة لسفيرة إيطاليا لدى لبنان نيكوليتا بومباردييري إلى محطة تكرير الصرف الصحي في زحلة المموّلة من مشروع التعاون الإيطالي، كان كلامها إلى المسؤولين عن القطاع، ومن بينهم وزير الطاقة وليد فياض، واضحاً. فبلادها ستنهي في شهر آب المقبل مهمّتها الممدّدة سنتين لإدارة هذه المحطة. وبعد هذا التاريخ سيتوجّب على الجانب اللبناني المستفيد من تشغيل هذه المحطة إتخاذ القرارات التي تسمح باستمرار إدارتها بالجودة التي تحصل عليها حالياً.
تشكّل تجربة محطة تكرير زحلة تجربة مشرقة بين مخططات إنشاء محطات التكرير على مجرى نهر الليطاني، والتي لم يكتب النجاح لمعظمها، أو حتى الولادة. وإنطلاقاً من هنا، يمكن تفهّم الحرص الذي تبديه السفارة الإيطالية، التي حضنت مراحل تجهيز المحطة ومن ثم تشغيلها لسنوات عديدة، لتأمين إستدامتها، وإصرارها بالتالي عبر قنواتها على وضع رؤية مستقبلية واضحة لإدارتها، تدرج نفقات تشغيلها، المرتفعة نسبياً، من ضمن الموازنات العامة للدولة.
هذا في وقت يعتبر تدخّل المجتمع الدولي المانح في دعم هذه المحطة بزحلة، تدخّلاً تجريبياً، بمعنى أنّ نجاح السلطة المحلية بتأمين إستدامة تشغيل محطة زحلة، سيحدّد سياسات دعم الدول وتمويلاتها اللاحقة لمثل هذه المشاريع في لبنان، وأما فشلها فمن شأنه أن يثبط عزيمة المانحين المحتملين في المستقبل.
ما يدفع إلى هذا الكلام حالياً، هو قرب إنقضاء شهر آخر من الأشهر التسعة التي حددتها السفارة الإيطالية لإنهاء مهمّتها بإدارة محطة تكرير زحلة، عبر ما اصطلح على تسميته بـ»مرحلة التسليم التشغيلية»، من دون أن يلمس المعنيون بالملفّ حتى الآن، طرحاً لإحتمالات جدّية، تذهب إلى أبعد من مقترحات الحلول الترقيعية. أحد هذه الحلول تحدّث عن الإستفادة من هبات توفرها منظمة «اليونيسف» لقطاع المياه والصرف الصحي وتشغيل المحطات. وبحسب المعلومات، فإنّ اليونيسف تعتبر أنّ هذه المهمّة في زحلة تفوق الإمكانيات المتوفرة لديها. ومع أن بعض من هم في موقع المسؤولية يعوّلون على دور لليونيسف في محطة تكرير زحلة، فهي حتى الآن لم تبد إستعداداً لذلك، وتركز جهودها على إعادة تأهيل محطة عيتنيت في بعلبك، إلى جانب تشغيل محطة جب جنين في البقاع الغربي.
وعليه، فإنّه ما لم تحصل تدخّلات تقنع الدولة الإيطالية بالإقتطاع من ضرائب مواطنيها للإستمرار بتمويل إدارة محطة تكرير خارج بلدهم، لا بديل واضحا، أو أقلّه لا رؤية للجهة التي ستؤول إليها إدارة هذه المحطة. هذا مع العلم أنه حتى الآن لم تجرَ أي عملية إستلام نهائية للمحطة، وهي لا تزال في عهدة مجلس الإنماء والإعمار الذي لم يبادر لتسليمها إلى وزارة الطاقة. ولكن حتى لو تسلّمتها مؤسسة مياه البقاع، فهي كما سائر مؤسسات المياه على الأراضي اللبنانية، لا تملك الإمكانيات لإدارة قطاع الصرف الصحّي، وفقاً لما تؤكده مصادرها بكل مناسبة. كما أنّ وضعها الإداري لم يشهد طيلة السنوات الماضية إستقراراً يسمح بوضع السياسات والخطط المستدامة لتشغيل مثل هذه المحطة عند وضعها بعهدتها.
أما مصادرها فتؤكد أنّ تحميلها العبء من دون إيجاد مصادر التمويل الخارجية، لن يكون خطوة موفّقة. ولا تعوّل المصادر كثيراً على تمويل التشغيل من جيوب الناس، خصوصاً أن لا رسوم محددة لمعالجة الصرف الصحّي في نظام مؤسسات المياه، وإنّما هناك إقتطاع لنسب من رسوم الإشتراك المسدّدة لمؤسسات المياه لمعالجة الصرف الصحّي. وبحسب المصادر، فإنّه حتى لو رفعت هذه الرسوم إلى عشرة ملايين ليرة بدءاً من مطلع العام 2024 وفقاً لما هو مقترح، فإنّ الجزء المقتطع من المبلغ قد لا يكفي لتغطية فاتورة كهرباء واحدة كتلك التي يتطلّبها تشغيل مولد خاص في محطة جب جنين مثلاً. هذا في وقت ترزح مؤسسة مياه البقاع تحت أعباء فواتير الكهرباء المتراكمة لشركة كهرباء زحلة، وقد بلغت قيمتها أخيراً وفقاً للمصادر نحو مئتي مليار ليرة، علماً أنّ هذه الفواتير لا تتضمّن كلفة الطاقة المستهلكة لتشغيل محطة التكرير والتي يجري توفيرها حالياً مباشرة من خلال مؤسسة كهرباء لبنان.
قد يبدو للبعض في المقابل أنّ الدولة لا تزال تملك متّسعاً من الوقت لتخرج بالحلول المناسبة، ولكن «الوقت يمرّ سريعاً» كما تنبّه الجهات المانحة، بينما تعاطي سلطات الوصاية مع ملف الصرف الصحّي ومعالجته عموماً، لم يشِع إطمئناناً بقدرتها على التغلّب على الوقت برؤية وخطط واضحة. ولذلك لا ثقة بأن تعاطيها مع المهل الداهمة التي حدّدت لمحطة تكرير زحلة سيكون إستثناء، حتى لو جاءت مساهمة هذه المحطة حتى الآن برفع نحو سبعة ملايين متر مكعّب من المياه الملوثة عن نهر الليطاني الغارق بمجاريره .
اذ يكفي التذكير فقط بمشكلة الحمأة أو الوحول الناجمة عن عملية تكرير مياه الصرف الصحّي في المحطة، والتي رافقت عملية تشغيل المحطة منذ ست سنوات حتى الآن، ومع ذلك لم تبادر السلطة الرسمية لإيجاد الحلول لها، ولا هي تداركت بالأساس الوقوع في هذه المشكلة، ولولا موافقة بلدية زحلة على نقل كميات مجفّفة منها إلى مطمرها الصحّي، لغرقت المحطة بوحولها. وهذا ربّما ما يجعل الجهات المانحة، كما المجتمعات المحلية غير واثقة بأنّ الدولة ستجد مخططاً لإدارة المحطة في الوقت المناسب، وقلق أهالي المنطقة من أن يعود بهم الزمن إلى الوراء، بعدما إنتظروا 14 عاماً حتى تم تشغيل هذه المحطة، وتحت ضغط التظاهرات الشعبية والتلويح بمقاطعة الإنتخابات، وخوفهم خصوصاً في ظل الازمة الراهنة، أن تهدر الدولة أكثر من 37 مليون دولار أنفقها المجتمع الدولي على تجهيز محطة تكرير زحلة، فيخسر لبنان معها ثقة المجتمع الدولي، الذي تؤكد المصادر أنه لم يعد مستعدّاً لأن يضع تمويلاته في مشاريع تفشلها الدولة، بينما المفترض أن تكون هي المسؤولة عن نجاحها.