ذابت الرواتب والأجور في القطاع العام، ولم تبادر الدولة إلى تصحيح الخلل على غرار القطاع الخاص، بل حاولت سدّ الفجوة ببضع مبالغ مالية أُدرِجَت كمساعدات اجتماعية. ولاستكمال الاستنزاف، تمتصّ الضرائب ما تبقّى من قدرة شرائية. إثر ذلك، ظهرت أصوات من بين متقاعدي الوظيفة العامة، مدنيين وعسكريين، تطالب بإعفاء معاشاتهم التقاعدية من الضريبة، لأن المعاش التقاعدي “لا يأتي من ممارسة عمل يؤدّي إلى تحقيق ربح يستوجب دفع ضريبة عليه”. وذهب بعضهم إلى المطالبة بإعفاء كافة الرواتب والأجور من الضريبة.
وفي زحمة النقاش حول الضريبة على المعاش التقاعدي، أعلن المجلس الدستوري يوم الخميس 5 كانون الثاني، إبطاله المادة 32 من قانون موازنة العام 2022، والتي تستثني ذلك المعاش من الضريبة. ليستنفر بعدها المتقاعدون رفضاً للقرار.
إعلان الإبطال
كنتيجة للطعن المقدَّم من النواب بولا يعقوبيان، ميشال الدويهي، الياس جرادي، ملحم خلف، رامي فنج، جميل السيد، مارك ضوّ، سينتيا زرازير، نعمة أفرام، وضّاح الصادق وأديب عبد المسيح، أعلن رئيس المجلس، القاضي طنّوس مشلب، إبطال بعض المواد المطعون بها، ومن ضمنها المادة 32 التي تنصّ على أنه “يُلغى من أحكام المادة 58 من المرسوم الاشتراعي رقم 144 تاريخ 12/6/1959 وتعديلاته (قانون ضريبة الدخل) إخضاع معاشات التقاعد لضريبة الدخل، ويعاد العمل بأحكام المادة 56 من القانون ذاته قبل تعديلاتها بموجب المادة 48 من القانون رقم 144 تاريخ 31/7/2019(قانون الموازنة العامة لعام 2019)”. ولتأكيد إخضاعها، ردَّ مشلب على سؤال عن ضريبة الدخل للعسكريين المتقاعدين قائلاً “لقد بقيت ضريبة الدخل كما هي”.
وفيما لا يزال السجال قائماً حول أسباب قرار القاضي مشلب بتأييد فرض ضريبة على المعاش التقاعدي، أكّد مشلب في حديث لـ”المدن”، أن قرار إبطال المادة “وَرَدَ عن طريق الخطأ في معرض إعلان المواد الأخرى المبطلة”. ووضَعَ مشلب هذا الخطأ في مصاف “الخطأ المادي”. جازماً أنه “سيجري تصحيحه وسيتم الإعلان عن استثناء المعاش التقاعدي من الضريبة اعتباراً من تاريخ إنفاذ الموازنة، أي من تاريخ 15/11/2022”.
لتثبيت الخطأ، أشارت النائبة بولا يعقوبيان في حديث لـ”المدن”، إلى أن النواب الموقّعين على الطعن بقانون الموازنة “لم يوقّعوا على الطعن بالمادة 32 بحدّ ذاتها، بل طعنوا بمفعولها الرجعي، مطالبين بتنفيذها مع سريان موازنة 2022”. وذكَّرَت بأن المجلس الدستوري “اعتبر في العام 2019 أن هذه الضريبة غير دستورية ويجب إلغاؤها في موازنة العام 2020، ولم يجرِ ذلك”. ولاحقاً، حسب يعقوبيان “أوضح المجلس أنه لم يقرّر ذلك، بل تمنّى”.
الضريبة لزيادة الإيرادات
استُحدِثَت الضريبة على المعاشات التقاعدية “لزيادة إيرادات الدولة”، حسب ما يقوله لـ”المدن” المحامي كريم ضاهر. وهذه الضريبة “تطبَّق في العديد من الدول انطلاقاً من فكرة التضامن ومن مبدأ المساواة مع دافعي الضريبة من الموظفين الذين يواصلون عملهم، ومن كل مكلّف يجني إيراداً”. علماً أن الضريبة التي يدفعها المتقاعدون، تساوي نصف ما يدفعه زملاؤهم في الخدمة الفعلية.
ويستطيع المشرِّع، وفق ضاهر، أن “يعفي الدخل من الضريبة، انطلاقاً من استراتيجية معيّنة وأهداف اقتصادية واجتماعية، وليس بالمطلق أو بلا سبب. لكن في الأصل، الضريبة يجب أن تكون قائمة لأنها تُفرَض على كل ربح وكل إيراد، والدخل هو إيراد”.
ويشرح أن “المعاش التقاعدي يساوي بشكل ما، عقاراً اشتراه أحد المتقاعدين بتعويضه، ليؤجّره ويستفيد من عائداته، ومع ذلك، يدفع المتقاعد ضريبة على العقار. أو ذلك الذي وظَّفَ تعويضه التقاعدي في أي استثمار ليحصل على مردود مالي، ويدفع ضريبة على هذا المردود، وهو بذلك يتساوى مع زملائه الذين يدفعون الضريبة على معاشاتهم”. وهذه المقاربة يصحّ إجراؤها بين موظّفي القطاع العام وموظّفي القطاع الخاص الذين لا معاشات تقاعدية لديهم.
ويختم ضاهر أنه “انطلاقاً من تدنّي قيمة رواتب القطاع العام إلى مستوى شبه معدوم، ارتأى المشرِّع إعفاء المعاشات التقاعدية من الضريبة”.
في المحصِّلة، لا ضريبة على المعاشات التقاعدية. والعمل مستمر بما تنصّ عليه المادة 32 من قانون موازنة العام 2022.