حدّد القانون الدولي حدود الدولة كأحد العناصر المكونة لسيادتها التي لا تكتمل من دون ترسيم حدودها، التي هي عنصر اساس مكوّن لها وللسلطة الشرعية المعترف بها. يعتبر جان غوتمان (Jean Gottmann) الحدود، بأنّها خط يحدّد مساحة تُمارس عليها سيادة وطنية. كما يرى جان مارك سوريل (Jean-Marc Sorel) انّ ترسيم الحدود هو حاجة لمنع التداخل بين سيادة دولة واخرى. في حين يقول برتراند بادي (Bertrand Badie) انّ الحدود تساهم بشكل اساس في تكوين وتثبيت مفهموم (Etat-nation) والسلطات المعترف بها على ارض الوطن.
لقد طرحت الاستكشافات المستجدة في شرقي المتوسط اشكالية ترسيم الحدود اللبنانية مع كل من قبرص وسوريا، وخصوصاً مع “اسرائيل”، التي اعلنت عن اكتشافات تجارية في المنطقة الحدودية المتنازع عليها. وزاد النزاع البحري طبقة جديدة على طبقات الصراعات العديدة في المتوسط، والتي ساهم الغاز في تزكيتها بشكل كبير. وحمل تحدّيات اضافية داخلية وخارجية مع تبعات على الصعد الاقتصادية والسياسية والجيوستراتيجية للدولة اللبنانية.
ومع انطلاق المفاوضات غير المباشرة اللبنانية- الاسرائيلية لترسيم الحدود البحرية برعاية الامم المتحدة وحضور الوسيط الاميركي، قدّم لبنان ملفاً تقنياً وقانونياً صلباً، يستند الى قانون البحار، ودراسة المكتب الهيدروغرافي البريطاني UKHO عام 2011، وأحكام وفقه (Jurisprudence) محكمة العدل الدولية ومحكمة البحار. أظهر الملف تطور منهج لبنان ازاء النقطة الثلاثية التي تحدّد حدوده الجنوبية مع قبرص واسرائيل. فانتقل من النقطة رقم 1 عام 2007 الى النقطة 23 عام 2011 الى نقطة جديدة (29) عام 2020 جنوب النقطة 23، مصحّحاً اخطاء معاهدة 2007 مع قبرص وما تبعها. وللتذكير، فإنّ الدراسة التقييمية للحدود البحرية التي اعدّتها UKHO أعطت لبنان مساحة اضافية ابعد من النقطة 23، من خلال 3 سيناريوهات، يعطي الاول منها لبنان 1350 كلم2 أضافي (خط وسطي من دون اخذ ثقل جزيرة “تخلت” في الاعتبار)، والثاني 500 كلم2 اضافي (خط وسطي مع اخذ ½ ثقل جزيرة “تخلت” في الاعتبار)، والثالث 200 كلم2 اذا اعتُمد الخط العامودي.
وعادت الى الواجهة قضية الجزر الاسرائيلية غير المأهولة، والتي يؤثر احتسابها من عدمه، على تحديد الحدود الجنوبية للمنطقة الاقتصادية اللبنانية. فالمادة 121 من قانون البحار تنصّ على ما يلي: “ليس للصخور التي لا تهيئ استمرار سكن بشري او استمرار حياة اقتصادية خاصة بها، منطقة اقتصادية خالصة او جرف قاري”. وفي فقه (Jurisprudence) القانوني الدولي، هناك أيضاً اتجاه نحو تقليل تأثير الجزر القليلة السكان أو غير المأهولة في مجمل مطالب ترسيم الحدود البحرية. وقد عمد بشكل رئيسي قضاة محكمة العدل الدولية، الى تحديد قاعدة عامة، تنطبق على الترسيم البحري بين جميع الدول. هذه القاعدة تجمع بين طريقة تساوي البعد (Equidistance) مع الأخذ في الاعتبار الظروف الخاصة لكل حالة، تتضمن ثلاث مراحل:
أولاً، رسم خط مؤقت (Provisoire) باستخدام تقنية تساوي المسافة (Equidistance)؛ ثم، تعديل هذا الخط المؤقت وفقًا للخصائص الجغرافية، أخيراً، التحقق من عدالة النتيجة وفقاً لمعيار النسبية (Proportionalité) الذي يجعل من الممكن تقييم غياب عدم التناسب الفاضح (Effet Disproportionel) بين مساحات البحر العائدة لكل دولة، وأهمية الخط الساحلي لكل منها. هذه القاعدة أثبتت وظهرت حصراً في السوابق القضائية الدولية. ففي حالة لبنان، لا يمكن لجزيرة أو صخرة غير مأهولة (“تخلت”) ان تُفقده 1800 كلم2 ، علماً انّ اجمالي مساحة منطقته البحرية 22,730 كلم2، وليس هنالك من سابقة قانونية دولية بأخذ وزن للجزر ان كان لديها (Effet Disproportionel) خصوصاً غير المأهولة منها. فالنزاع حالياً يدور حول 1800 كلم2، استناداً الى انّ اقصى ما يطالب به لبنان هو 1430 كلم2 جنوب النقطة 23 (استناداً الى تقرير UKHO عام 2011 الذي اعطى لبنان 1350 كلم2، ودراسة الجيش المحدثة عام 2018 التي اضافت 70 كلم2 على الدراسة البريطانية)، واقصى ما يمكن ان تطالب به اسرائيل 370 كلم2 شمال النقطة 23، وهي المساحة التي اعطاها ايّاها خط هوف آخذاً في الاعتبار الجزر الاسرائيلية غير المأهولة.
ويبقى التفاوض مصلحة استراتيجية للدولة اللبنانية، كونه في الدرجة الاولى عامل استقرار، سيشجع شركة “توتال” على التنقيب في البلوك رقم 9، واستكمال دورة التراخيص الثانية، عبر استقطاب المزيد من الشركات العالمية المهتمة بالتنقيب، واعادة النظر بالاتفاقية الموقّعة مع قبرص، وارساء معادلة للترسيم الاشكالي للحدود الشمالية مع سوريا. وفي حال عدم نجاح التفاوض، يتوجب على لبنان اصدار مرسوم جديد يعدّل المرسوم 6433 لناحية حدود المنطقة البحرية، وتضمينها 1430 كلم2 جنوب النقطة 23 وإبلاغ الامم المتحدة بذلك عملاً بالمادة 74 من قانون البحار. علماً انّ المادة 3 من المرسوم 6433 تركت الباب مفتوحاً على التعديل، وهي تنص على ما يلي: “يمكن مراجعة حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة وتحسينها، وبالتالي تعديل لوائح احداثياتها، عند توافر بيانات اكثر دقة، ووفقاً للحاجة، في ضوء المفاوضات مع دول الجوار المعنية”. وبإصدار المرسوم الجديد ستصبح الـ 1800 كلم2 منطقة نزاع يصعب فيها التنقيب، مما يزيد الضغط على الجانب الاسرائيلي ويجعله في موقع المستعجل لإيجاد الحلول اللازمة. فمن المتوقع ان يبدأ ضخ الغاز في النصف الثاني من العام 2021 من حقل كاريش الواقع ضمن منطقة النزاع، مما يشكّل عامل ضغط اضافي على شركة Israel Energean المستثمرة، والتي ستتأثر اعمالها سلباً من جراء استمرار النزاع الحدودي.
ويبقى ان تمارس الدولة اللبنانية سيادتها بشكل فعلي، فيأخذ الملف ابعاده التقنية والقانونية والسيادية، التي تراعي مصلحة الدولة اللبنانية العليا وحدها، حيث يمكنها من الاستفادة من الثروات الطبيعية لإعادة تحفيز الاقتصاد المتهالك وإنعاش الامل في النفوس.