قدّم وزير الاقتصاد الدكتور عامر بساط، والخبير الاقتصادي والمالي الدكتور إسحاق ديوان ورقة بحثية عبر معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت بعنوان «نحو لبنان جديد مُنتِج» في شباط 2025.
أهمية الورقة من ناحية الشكل، أنها أتت من أشخاص كان رئيس الحكومة نواف سلام يراهن على دورهم التفصيلي في وضع الخطط والتصوّرات الخاصة بالإصلاحات المالية والاقتصادية، علماً أن سلام نفسه، ركن في المرحلة السابقة إلى وجود خبراء بعضهم من «كلنا إرادة» ومن جهات أخرى، لأجل تزويده بأفكار ومقترحات من أجل خلق توازن في الحكومة، خصوصاً أن التباين بينه وبين الرئيس جوزيف عون خجول، وهذا الملف لم يظهر إلى العلن بعد، سيما أن رئيس الجمهورية الذي يساعده خبراء ليسوا من الفئة التي يرى سلام وفريقه أنها مؤهلة لقيادة المرحلة. أما عنصر القلق الآخر، فيتعلق بموقف وزير المالية ياسين جابر ومرجعيته.
وقد طلب سلام من البساط المبادرة تجاه وزير المال، والقول له، بأن ما يقوم به، لا يتجاوز عرض الأفكار، وأنه ليس في وارد التدخل في عمل وزارة المالية. لكنّ جابر، يعرف أن سلام يريد أن يكون للبساط دوره الأساسي في الخطط المقترحة للمرحلة المقبلة. لكنّ الأهم من كل ما سبق، هو أن البساط وديوان أعدّا الورقة على قاعدة أنه لا وجود لأي نوع من الضغوط السياسية أو التباينات أو حتى عدم الوضوح إزاء ما يمكن أن يحصل عليه لبنان من دعم خارجي.
التحدّي ليس بوضع الأفكار الاقتصادية أو المالية التي يمكن أن تعبر إلى «لبنان الجديد» فحسب، بل هو في إيجاد آلية عملية لتفكيك منظومة رأس المال التي تحول دون تغيير هيكلية الاقتصاد السياسي
عملياً، جاءت الورقة على شكل أفكار نوقشت بين مجموعة صغيرة من الخبراء الاقتصاديين في الفترة الممتدة بين آذار ونيسان 2021. وتبدو كمحاولة لإعادة تقديم النموذج الاقتصادي السابق ولكن تحت مسمى «اقتصاد منتج»، إنما من دون آلية عملية لهذا التحوّل. هي تقدّم توصيات نظرية جيدة، لكنها تتجاهل الأسباب العميقة التي أوصلت لبنان إلى أزمته الحالية، ولا تطرح حلولاً عملية لكيفية مواجهة الرفض، الذي جمع بين السياسة ومنظومة رأس المال، لأي تغيير حقيقي. دون معالجة هذه القضايا، فإن أي خطة اقتصادية ستبقى مجرد تمرين أكاديمي بعيد عن الواقع.
في تمهيد الورقة البحثية، يذكر البساط وديوان أن الرئيس سلام جمع مجموعة صغيرة في بداية 2021 لطرح تحدٍّ بسيط: «بعد أن اتضح أن النموذج الاقتصادي القديم قد مات، كيف يمكننا أن نتخيّل لبنان «جديداً» ومنتجاً؟». ويذكران أيضاً أن الجميع وضعوا افتراضاً بأن «السياسة» ليست ضمن القيود التي تحدّ من تصوراتهم. ويكمل الكاتبان، عن شرح ما حدث منذ ذلك الوقت، بدايةً من ثورة 17 تشرين 2019 مروراً بانفجار المرفأ و«الطرق السياسية المسدودة التي لا تنتهي، وما يترتب على ذلك من تفكك المجتمع».
ومن المثير للاهتمام أن الكاتبين لم يتطرقا في التمهيد إلى الحرب الإسرائيلية، منذ انطلاقتها في 7 تشرين الأول 2023 والتي لم تنتهِ في 27 تشرين الثاني 2024 تاريخ بدء العمل بقرار وقف إطلاق النار.
قبل أي نقاش تقني حول المذكور في الورقة، فمن المهمّ الإشارة الى فكرة أساسية دائماً ما يقوم بها «التقنيون» الذين يتحدثون عن الاقتصاد كأنه علم مجرّد، لا تدخل فيه «السياسة»، أو كأنّ «السياسة» هي عامل مخرّب للأفكار الاقتصادية. مع العلم أن الاقتصاد بحدّ ذاته هو جزء من السياسة، وأن نموذج الاقتصاد السياسي الذي يطرحه أيّ كان، هو طرح سياسي وليس طرحاً تقنياً علمياً مجرداً.
عدا ذلك، قد تكون الطروحات الاقتصادية الموجودة في هذه الورقة ممتازة من الناحية النظرية، إلا أن هناك الكثير من الافتراضات التي يمكن، على الأقل، تحدّيها بالنقاش.
من أبرز النقاط وأهمها، أن الورقة تؤكّد مراراً وتكراراً أن النظام الاقتصادي السابق للأزمة في لبنان لم يكن ليبرالياً، ما يقود إلى استنتاج بديهي وهو أن هذا الفريق يدعم فكرة أن النظام الليبرالي هو النظام الأفضل للبنان بناءً على « خصوصيات لبنان التاريخية والجغرافية والثقافات المتعددة».
والهدف من الإشارة إلى هذا الأمر، ليس الادّعاء بأن هناك نظاماً اقتصادياً أفضل للبنان، بل فقط من أجل التصويب. كون النظام الاقتصادي اللبناني كان بالفعل ليبرالياً، لم يكن هناك أي قيود على حركة رأس المال، من وإلى البلد. ولا وجود لقيود على الاستثمار، بل على العكس، فقد حبّذ النموذج الاستثمار، لكن في قطاعات حدّدها السوق بفعل السياسات المالية والنقدية السابقة. ما كان موجوداً هو توجّه الحكومات المتعاقبة، منذ نهاية الحرب الأهلية، لاختيار الريع على الإنتاج، وهذا الأمر تذكره الورقة البحثية. لكن كان هناك إصرار على فكرة أن النظام الاقتصادي السابق لم يكن ليبرالياً.
تركّز الورقة على أهمية المغتربين اللبنانيين في بناء اقتصاد منتج في لبنان، سواء من خلال علاقاتهم أو أموالهم وغيرها من الأمور، باعتبارهم «مستهلكين ومموّلين ومصدراً للمعرفة والاتصالات ومستثمراً مباشراً».
لكن ليس هناك تفسير واضح حول التطبيق العملي لاستغلال هذه العلاقات أو هذه المعرفة، سواء في تسويق الإنتاج التكنولوجي أو الإنتاج الزراعي والحرفي أو حتى الإنتاج الصناعي.
بمعنى آخر، لا تُطرح آلية محددة يمكن اتباعها لتخدم هذا الهدف، علماً أن الآلية الوحيدة التي نعرفها في لبنان عن الاستفادة من المغتربين هي عن طريق تحويلاتهم المالية، التي أصبحت من أعمدة الاقتصاد اللبناني ما بعد الأزمة.
كما أن هناك تركيزاً على «المؤسسات التعليمية من الطراز الرفيع» الموجودة في لبنان، والتي يُشار فيها إلى الجامعات الخاصة. في الواقع، التعليم العالي في لبنان يواجه أزمة كبرى تتعلق بعدم ارتباطه بسوق العمل المحلي وبتدهور مستوى التعليم الرسمي. من دون سياسة تعليمية واضحة تهدف إلى توجيه النظام التعليمي نحو القطاعات الإنتاجية المستهدفة، فإن هذه الميزة التنافسية ستظل نظرية أكثر منها واقعية، إذ إن الاعتماد على المؤسسات التعليمية الخاصة، جزء أساسي من تصدير رأس المال البشري اللبناني إلى الخارج، خصوصاً إلى سوق الخليج الذي يصعب على السوق اللبناني منافسته من ناحية الأجور. بمعنى آخر، الخيار هنا واضح، بين توجيه الاقتصاد نحو توسيع ميزة لبنان التفاضلية، واللحاق بأسواق العمل الإقليمية ومنافستها من خلال الجامعات الخاصّة، وهو أمر يفتح المجال أمام النزيف في رأس المال البشري، وبالتالي لا يخرج عن سياق النموذج الاقتصادي السابق.
كما تذكر الورقة في أكثر من مناسبة توزيع التركّز الاقتصادي في لبنان، الموجود بشكل أساسي في العاصمة بيروت. وتتحدّث عن استخدام التكنولوجيا والقدرات التكنولوجية الفردية المتاحة لتثبيت لامركزية اقتصادية تتوزّع فيها الأعمال على كلّ المناطق. والمشكلة في هذا الطرح أن الاعتماد على التكنولوجيا غير كافٍ، إذ إن تفكيك مركزية الاقتصاد في بيروت يحتاج إلى تأمين بنية تحتية تسهّل هذا الأمر. فعلى سبيل المثال، فإن شبكة الطرقات الأساسية في لبنان كلّها موضوعة لخدمة العاصمة، وهو ما يجعل التفكير في محاولة نقل الاقتصاد إلى اقتصاد لامركزي من دون الحديث عن تعديل شبكة الطرقات الأساسية في البلد، أمراً غير منطقي. وهذا جانب واحد فقط من البنى التحتية.
يمكن الإضافة من ناحية شبكة الإنترنت، خصوصاً الأرضية، وهي غير موزّعة بشكل عادل على كامل الأراضي اللبنانية، وهي ركن أساسي لاستخدام التكنولوجيا في لامركزية الاقتصاد، وغيرها الكثير من الجوانب الأخرى.
إضافة إلى ذلك، تشير الورقة إلى ضرورة بناء اقتصاد إنتاجي يعتمد على الابتكار والتكنولوجيا، لكنها وإن كانت تذكر العوائق البنيوية التي تجعل هذا الانتقال صعباً، مثل ضعف البنية التحتية، وانهيار النظام المصرفي، والهيمنة الموجودة على القطاعات الاقتصادية، فهي لا تضع تصوّراً واضحاً لحلّ هذه الأمور. لا يمكن للاقتصاد المنتج أن ينمو في ظل مناخ استثماري غير مستقر، وفي ظل دولة عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية، علماً أن الورقة تتحدّث عن هذه الأمور على أنها عقبات، لكنها لا تلتفت إلى مشكلة أن حلّ هذه العقبات يصطدم، ليس بالمنظومة السياسية فحسب، بل بمنظومة رأس المال اللبناني، وهي عبارة عن علاقات عابرة «للسياسة»، مصلحية بامتياز، وهي عملياً التي منعت أي إجراءات إصلاحية خلال السنوات الماضية.
لذا، التحدّي ليس بوضع الأفكار الاقتصادية أو المالية التي يمكن أن تعبر إلى «لبنان الجديد»، التحدّي هو في وضع منهج عملي، إذا وُجدت النيّة، لوضع آلية تعمد إلى تفكيك منظومة رأس المال الموجودة التي تحول دون تغيير هيكلية الاقتصاد السياسي في لبنان، لأن هذا الأمر ليس في مصلحتها أصلاً.