لبنان تحت مجهر “مجموعة العمل المالي”: خطر العزلة الشاملة

حلّ وفد مجموعة العمل المالي ضيفًا ثقيلًا على العاصمة بيروت هذا الأسبوع، حيث من المتوقّع أن يبقى في ضيافة اللبنانيين لنحو ثلاثة أسابيع، ليصول ويجول خلالها في أروقة الإدارات الرسميّة ومصرف لبنان والمصارف والجمارك والنيابات العامّة التمييزيّة، وغيرها من المؤسسات العامّة والخاصّة التي يتصل عملها بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وفي خلاصة هذه المهمّة، سيكون على الوفد إعداد تقريره التقييمي لكفاءة الإجراءات اللبنانيّة المتبعة لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، ومدى امتثال هذه الإجراءات للمعايير الدوليّة التي وضعتها المجموعة.

باختصار، أمام لبنان امتحان ميداني سيجريه هذا الوفد خلال الأسابيع المقبلة، بعدما بدأ الوفد أساسًا بمراجعة الإجراءات اللبنانيّة على الورق منذ أشهر، عبر الاطلاع على آخر التعاميم والقوانين والقرارات المرتبطة بمهمّته.

حساسيّة زيارة مجموعة العمل المالي

في الواقع، لا يوجد حاجة للاستفاضة في الشرح لتبيان حساسيّة ما يجري اليوم. فمهمّة مجموعة العمل المالي الأساسيّة، بوصفها منظمة حكوميّة دوليّة، تتركز على وضع المعايير الدوليّة لأنشطة مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، ومراقبة امتثال دول العالم لهذه المعايير. وبنتيجة عمليّاتها الرقابية، تقوم المجموعة بتصنيف الدول غير الممتثلة لمعاييرها ضمن اللائحة الرماديّة، الخاضعة للمراقبة الشديدة، كحال سوريا وباكستان واليمن ومالي وغيرهم. أو يمكن حتّى وضع الدول غير الممتثلة على اللائحة السوداء، كحال إيران وكوريا الشماليّة، بما يفرض تطبيق تدابير صارمة ومضادة تجاه هذه الدول، لحماية النظام المالي العالمي.

ما يجريه وفد مجموعة العمل المالي في لبنان حاليًّا، ليس سوى الامتحان الدوري الذي يجريه كل خمس سنوات. وهذا الامتحان يُفترض أن يُفضي إمّا إلى إبقاء لبنان ضمن لائحة الدول الممتثلة لمعايير المجموعة، أو إلحاقه باللائحة الرماديّة، أي لائحة الدول الخاضعة للرقابة المشددة، تمامًا كما كان الحال بين عامي 2000 و2003. ومجرّد دخول هذه اللائحة سيعني إجبار المؤسسات الماليّة والمصارف العالميّة على مراجعة إجراءاتها الرقابيّة على العمليّات التي تتم مع لبنان، وتشديد التدقيق على أي تحويلات من لبنان وإليه.

مع الإشارة إلى أنّ المصارف اللبنانيّة تعاني أساسًا من انحسار علاقاتها مع المصارف المراسلة في الخارج، إلى حد فقدان بعض المصارف اللبنانيّة لجميع حساباتها لدى المصارف المراسلة، واعتمادها على مصارف محليّة أخرى للاتصال مع الخارج، نتيجة أزمة السيولة التي يمر بها النظام المصرفي. ولهذا السبب، من المتوقّع أن يؤدّي إدراج لبنان ضمن اللائحة الرماديّة إلى شبه عزلة ماليّة عن العالم، نتيجة تقاطع عاملين معًا: ارتفاع مخاطر السيولة نتيجة الأزمة الماليّة، وارتفاع مخاطر الامتثال وتبييض الأموال وتمويل الارهاب، في حال أخضعت مجموعة العمل المالي لبنان إلى الرقابة المشددة.

مخاطر الاقتصاد النقدي

في واقع الأمر، وحسب جميع المصادر المصرفيّة المتابعة لعمل وفد مجموعة العمل المالي، ترتفع هذه السنة مخاطر إدراج البلاد ضمن اللائحة الرماديّة، أكثر من جميع المراحل التي سبقت العام 2019، وهو ما يفسّر خشية المصارف من الجولة الراهنة لوفد مجموعة العمل المالي. فمنذ حصول الانهيار المصرفي، تحوّل الاقتصاد اللبناني بأسره إلى اقتصاد قائم على التداولات النقديّة، بما يرفع مخاطر تبييض الأموال إلى درجات مرتفعة. ومن الناحية العمليّة، باتت الغالبيّة الساحقة من التحويلات المصرفيّة الصادرة إلى الخارج تتم مقابل إيداعات نقديّة مباشرة، فيما بات أي تحويل وارد من الخارج مجرّد خطوة تسبق سحب هذه المبالغ نقدًا. وهذا النوع من العمليّات، الذي يحوّل المصارف إلى مجرّد صناديق سحب وإيداع، يمثّل بيئة حاضنة ومثاليّة للأنشطة الماليّة غير المشروعة، التي تستهدف ضخ الأموال المشبوهة إلى قلب النظام المالي الشرعي.

بمعنى أوضح، علاقة النظام المصرفي اللبناني مع النظام المالي العالمي بعد حصول الأزمة المصرفيّة، من ناحية معايير مكافحة تبييض الأموال، ليست بخير. وهذا تحديدًا ما سينعكس في التقييم الذي سيلي زيارة وفد مجموعة العمل المالي الحاليّة إلى لبنان، وفي إمكانيّة إدراج لبنان ضمن اللائحة الرماديّة. ولهذا السبب بالتحديد، تخطف المصارف اللبنانيّة اليوم أنفاسها بانتظار هذا التقييم المرتقب، خصوصًا أن وفد جمعيّة المصارف سمع منذ أشهر تحذيرات شديدة اللهجة من وكيل الخزانة الأميركيّة للإرهاب والاستخبارات الماليّة بريان نيلسون، بخصوص مخاطر عمل المصارف اللبنانيّة في ظل “اقتصاد النقد الورقي”. وفي ذلك الوقت، أبدى نيلسون بعبارات صريحة خيبة أمل إدارته، من عدم اتخاذ المصارف اللبنانيّة ما يكفي من إجراءات، للحؤول دون استخدامها لتسريب “الأموال غير المشروعة” إلى النظام المالي العالمي.

المجتمع الدولي للمصارف: صندوق النقد أو الجحيم

لا شك أن المجتمع الدولي بأسره يعلم أن تكريس الاقتصاد النقدي ليس سوى نتيجة لأزمة السيولة التي يمر بها النظام المصرفي اللبناني، ولعدم قدرة القطاع المصرفي على تقديم أبسط الخدمات المصرفيّة. ولهذا السبب، من غير الواقعي توقّع أي تطوّر إيجابي على صعيد إشكاليّة اعتماد السوق على تداولات النقد الورقي، أو على صعيد مخاطر تبييض الأموال، إلا بالتوازي مع معالجة أزمة القطاع المالي نفسه. ولذلك، سبق وصول وفد مجموعة العمل المالي تلقّي جمعيّة المصارف للعديد من الرسائل الصارمة من جانب العديد من السفارات والجهات الدوليّة المعنيّة بالملف اللبناني، مفادها أن إمعان الجمعيّة في عرقلة مسار التفاهم مع صندوق النقد وتطبيق خطّة التعافي المالي سيحمّل القطاع المصرفي بأسره عواقب وخيمة. وبعض هذه الرسائل تضمنت تحذيرات صريحة، أشارت إلى أن النظام المصرفي اللبناني لم يعد بعيدًا من مرحلة العزلة الشاملة، بالنظر إلى تزايد مخاطر التعامل معه من عدّة نواحي، ومنها مخاطر تبييض الأموال، في تلميح واضح لمهمّة مجموعة العمل المالي الراهنة.

لكل هذه الأسباب، تأتي زيارة وفد مجموعة العمل المالي في لحظة دقيقة وحسّاسة للغاية، بالتوازي مع العمل على إعادة صياغة بعض جوانب خطّة التعافي المالي. فمسألة مخاطر تبييض الأموال، التي يبحث عنها الوفد، لم تعد تتصل فقط بالإجراءات المطلوبة لمكافحة غسيل الأموال، بل باتت تتصل بأزمة القطاع المصرفي، التي كرّست الاقتصاد النقدي. وبذلك، باتت المعالجات المطلوبة مرتبطة بالشروع بمسار التصحيح المالي وبتطبيق خطّة التعافي، ما يدفع للسؤال عن كيفيّة تفاعل جمعيّة المصارف وحلفائها من السياسيين مع هذا المسار. وإذا كان نطاق مهمة وفد مجموعة العمل المالي لا يشمل البحث في هذه المسائل السياسيّة، فالسفارات والجهات الدوليّة التي حذّرت جمعيّة المصارف مؤخرًا تضع هذه التطورات تحت المجهر، وتسأل عنها بدقّة.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةخدعة فيول الكهرباء: عودة إلى تركيا والجزائر والبواخر
المقالة القادمةلا حل أمام سلامة لتمويل زيادة الرواتب سوى طباعة الليرة: هل يطير الدولار الى 150 الف؟