لم يفتقر اللبنانيون، منذ بداية أزمتهم الماليّة، للمشورة العلميّة أو الأفكار البنّاءة، للخروج من هذه الأزمة. بل في واقع الأمر، بات تعداد هذه الخطوات المطلوبة مضجرًا، لكثرة تردادها في تقارير المؤسّسات الدوليّة ودراسات المراكز البحثيّة، وفي الخطط الحكوميّة التي ظلّت حبرًا على ورق.
مراجعة لخريطة الطريق المعروفة
هي خريطة الطريق المعلومة نفسها، التي كان يفترض أن تبدأ بتدقيق أرقام المصارف ومصرف لبنان، تمهيدًا لإعادة هيكلة القطاع، وتصحيح وضعيّة الموازنة العامّة بالتوازي مع إعادة هيكلة الدين العام، وصولًا إلى توحيد أسعار الصرف واستعادة الانتظام النقدي. هذه المسارات المترابطة، ما زالت حتّى هذه اللحظة المدخل الإلزامي والواقعي الوحيد للخروج من الأزمة.
في نهاية هذا العام، يمكن للمرء اكتشاف مدى ابتعاد البلاد عن طريق التصحيح المالي والنقدي، بمجرّد مراجعة وضعيّة هذه المسارات. ببساطة، ثمّة خريطة متكاملة من الحلول المعطّلة عمدًا، عن سابق تصوّر وتصميم، من جانب نخب سياسيّة ومصرفيّة لا تملك مصلحة في تنفيذ هذه الحلول.
هو “الكساد المتعمّد” كما وصفه البنك الدولي. كان الكساد متعمدًا حين ولد من رحم سياسات عامّة تاريخيّة خدمت مصالح هذه النخب، وكان متعمّدًا حين تم تعطيل الحلول المطلوبة لإنهاء الأزمة الراهنة. وفي النتيجة، يلتحق اللبنانيون شيئًا فشيئًا بقطار المجتمعات العربيّة التي تشهد تحلّل بُنى الدولة الوطنيّة وأدوارها، ولو من دون مظاهر الحرب الأهليّة التي تصاحب هذه الظاهرة عادة.
تدقيق الميزانيّات المصرفيّة: من يعرقل؟
وفقًا لخطّة الحكومة، وحسب تفاهمها مع صندوق النقد الدولي، كان من المفترض أن يتم إنجاز تدقيق محاسبي في ميزانيّات أكبر 14 مصرفاً، يستحوذون معًا على 83% من موجودات القطاع. وكان يجب أن يتكامل هذا التدقيق مع التدقيق في ميزانيّات مصرف لبنان، لمعرفة حجم الأصول الفعليّة المتبقية في القطاع، وحجم الودائع التي يمكن استردادها. وعلى أساس عمليّات التدقيق، كان يمكن تصميم مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي، بعد معرفة حجم الرساميل المطلوب ضخّها لإنعاشه. ومن دون تدقيق شامل من هذا النوع، يصعب الرهان على أي مسار واقعي لإعادة هيكلة المصارف.
كما هو معلوم، تم إنجاز تدقيقين محاسبيّيَن في ميزانيّات المصرف المركزي، بالإضافة إلى تدقيق جنائي أوّلي، كما تم نشر جميع هذه التقارير خلال العام الراهن. وفي خلاصة الأمر، لخّصت التقارير الثلاثة مجموعة من المخالفات المحاسبيّة التي انطوت عليها ميزانيّات مصرف لبنان، بما يصل إلى حد التزوير الصريح، كما فنّدت التقارير آليّات إخفاء الخسائر التي اعتمدها حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة.
لكن على المقلب الآخر، لم تنطلق حتّى هذه اللحظة عمليّة التدقيق في ميزانيّات المصارف التجاريّة، والتي كان يفترض أن تكمّل التدقيق في ميزانيّة مصرف لبنان. بدأت عرقلة هذه المسار في البداية بحجج عدم توفّر التمويل اللازم لدى وزارة الماليّة، لتكليف الشركات المحاسبيّة الأجنبيّة بإجراء عمليّة التدقيق. وبعد طرح إمكانيّة تمويل العمليّة من المؤسسات الدوليّة، انتقلت وزارة الماليّة إلى التحجّج بعدم توفّر شركات دوليّة مستعدّة للدخول في مهمّة من هذا النوع، في القطاع المصرفي اللبناني. وهكذا، ما زالت الحكومة لا تملك حتّى هذه اللحظة تصوّرًا لوضعيّة المصارف التجاريّة الكبرى، ومازالت تجهل خبايا ميزانيّات هذه المصارف، وهو ما يجعل خطط إعادة هيكلة القطاع المطروحة أشبه بالضرب بالرمل.
مسار إعادة الهيكلة: تقاذف مسودات مشاريع القوانين
منذ بداية العام الراهن، أنجزت الحكومة مسودّة مشروع قانون إعادة التوازن للانتظام المالي في لبنان، الذي يفترض أن يحدد سقف الودائع المضمونة، وكيفيّة التعامل مع الودائع غير المضمونة. غير أن الحكومة اختارت أن “ترمي” مشروع القانون في لجنة المال والموازنة، عبر تقديمه من قبل النائبين جورج بوشيكيان وأحمد رستم، بدل إحالته كمرسوم مشروع قانون من قبل الحكومة.
هكذا، تغيّب النائبان عن أولى جلسات لجنة المال والموازنة المخصّصة لمناقشة مشروع القانون، وكذلك فعل فريق العمل الحكومي الذي أعدّ المسودّة النهائيّة منه، فبات مشروع القانون مشروعًا لقيطًا لا يملك من يدافع عنه، وبقي حبيس أدراج لجنة المال والموازنة. وبطبيعة الحال، لم يشهد الملف هذا أي تقدّم خلال العام 2023، باستثناء الإشارة إليه كقطعة مفقودة في خريطة الحلول الماليّة.
على المقلب الآخر، لم يكن الوضع أفضل حالًا لجهة مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، الذي كان يجب أن يحدد معايير إعادة رسملة المصارف القابلة للاستمرار، ومعايير تصفية المصارف المتعثّرة. فبعد أكثر من سنتين من العمل على المسودّة بين مصرف لبنان وفريق العمل الحكومي، وبعد طرح المسودّة على طاولة مجلس الوزراء، شنّت جمعيّة المصارف حربًا على مشروع القانون ومندرجاته. وكان من الواضح أن المصارف ترفض بشكل قاطع أي مساس برساميل أصحابها، في سياق عمليّة إعادة القطاع، وهو ما فرمل مسار مشروع القانون بأسره. في النتيجة، وتمامًا كحال مشروع قانون استعادة التوازن للانتظام المالي، توقّف البحث في مشروع قانون إعادة الهيكلة.
الدين العام والميزانيّة العامّة: إصلاحات مؤجّلة
بحلول نهاية هذه السنة، يكون قد انقضى أكثر من ثلاث سنوات وتسعة أشهر على إعلان لبنان التوقّف عن سداد سندات اليوروبوند. وحتّى هذه اللحظة، لم تُقدم الحكومة على أي خطوة لبدء التفاوض مع الدائنين، من أجل إعادة هيكلة السندات، وفق آجال وقيم ونسب فوائد جديدة.
وفي الوقت نفسه، لم يبادر الدائنون حتّى الآن لاتخاذ أي إجراء قضائي في وجه الدولة اللبنانيّة، أمام المحاكم الأميركيّة، بانتظار تحسين موقفهم القانوني في وجه لبنان. أمّا الأكيد هنا، فهو أنّ الدائنون يستفيدون خلال الوقت الراهن من أخطاء الدولة اللبنانيّة في مقاربة الملفّات الماليّة، لمراكمة المزيد من الأسلحة القانونيّة، التي سيتم استخدامها ضد لبنان في المستقبل.
في المقابل، وعلى مستوى تصحيح وضعيّة الميزانيّة العامّة، مضى العام 2023 من دون أن يتم إقرار أي ميزانيّة لهذه السنة، بعدما رفضت لجنة المال والموازنة دراسة الموازنة التي وردتها خارج المهل الدستوريّة. أمّا ميزانيّة العام المقبل، والتي أقرّتها الحكومة بعيدًا عن أبسط الإصلاحات المطلوبة، فما زالت قيد النقاش في المجلس النيابي، فيما سيكون بإمكان الحكومة إصدار الموازنة بمرسوم إذا لم يتم التصويت عليها بحلول نهاية كانون الثاني المقبل. وفي جميع الحالات، ما زالت الميزانيّة المطروحة، وجميع التعديلات المقترحة عليها، بعيدة عن تحقيق التوازن المالي المطلوب في هذه المرحلة.
أخيرًا، وفي خريطة الإصلاحات المعطّلة، يبدو مسار توحيد أسعار الصرف المسار الوحيد الذي شهد تقدمًا يُذكر، خلال العام الراهن. فبعد وقف عمليّات منصّة صيرفة، بمجرّد انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، وبعد اعتماد سعر السوق الموازية كبديل عن سعر المنصّة، أنهى مصرف لبنان التباين بين السعر الفعلي في السوق وسعر صرف التداول المعتمد من قبله. وخلال الفترة المقبلة، من المرتقب أن ينتقل مصرف لبنان إلى اعتماد سعر الصرف الفعلي كأساس للتصريح عن الميزانيّات المصرفيّة، وهو ما سيكمّل مسار توحيد أسعار الصرف. الخطوة الأهم المطلوبة هنا، تبقى إطلاق منصّة التداول الجديدة، التي يفترض أن تؤمّن تداول الدولار بيعًا وشراءً حسب سعر الصرف العائم.
هكذا، يبدو لبنان محكومًا بحالة من المراوحة القاتلة، التي تستنزف ما تبقى من مقدراته الاجتماعيّة والبشريّة، في ظل موجة الهجرة الكثيفة التي تشهدها البلاد منذ أربع سنوات. وهذا ما يستنزف أيضًا ما تبقى من أدوار الدولة والمؤسسات العامّة، ومن قدرة القطاع العام على أداء الحد الأدنى من وظائفه البديهيّة. وأنماط الاستنزاف هذه، المتعلّقة بالموارد البشريّة ووظائف المؤسسات العامّة، ستمثّل خسائر لا يمكن تعويضها في المستقبل، حتّى لو تجاوز لبنان بعد سنوات طويلة أزمته الاقتصاديّة الراهنة.