دخل القطاع المصرفي بلبنان في جولة جديدة من معركته المستمرة منذ أربعة أعوام ضد الدولة محملا إياها المسؤولية عن تبديد مليارات الدولارات من أموال المودعين، دون أن يقدم المسؤولون أي خطط عملية ملموسة لاختراق جدار هذه الوضعية التي أرهقت الجميع.
اتهمت جمعية المصارف اللبنانية اول امس الثلاثاء الحكومة بتبديد أكثر من 121 مليار دولار من أصل قرابة 124 مليار دولار كانت في شكل ودائع بالبنوك قبل تفجر الأزمة الاقتصادية في أواخر العام 2019 بسبب فساد الطبقة السياسية.
وتشكل هذه الاتهامات التي وجهها الأمين العام للجمعية فادي خلف للسلطات أحدث جولة في المعركة الطويلة بين القطاع المصرفي والدولة، في الوقت الذي يعاني فيه اللبنانيون من قيود على سحب أموالهم من البنوك جراء الأزمة المالية الحادة.
وتتبادل البنوك والحكومة الاتهامات حول تبديد الاحتياطات النقدية لدى البنك المركزي وأموال المودعين وسط خلافات مستمرة حول كيفية مقاربة حجم الخسائر وتوزيعها، والذي لا يزال تحت المناقشات العقيمة رغم ضغوط صندوق النقد الدولي.
وقال خلف في افتتاحية التقرير الشهري للجمعية بعنوان “مسؤولية الدولة ولو بعد حين” إنه “في سياق الأزمة المالية التي يشهدها لبنان يبرز دور الدولة ومؤسساتها المالية في تعميق المشكلة من خلال سلسلة من الإجراءات التي تتنافى مع مبادئ القانون الدولي”.
وأوضح في كلامه، الذي أوردته وكالة الأنباء اللبنانية الرسمية، أن هذه المبادئ تحدد الإطار الذي على البلدان العمل به، لضمان النظام والاستقرار المالي والاقتصادي، وتؤكد أنها تتحمّل “المسؤولية الكاملة عن أيّ فشل في تنظيم النظام المالي ومراقبته بشكل فعّال”.
وأضاف “بالتالي، يجب المطالبة بمحاسبة الدولة وليست فقط حقا للمتضررين من هذه الأزمة، ولكنها واجب أيضا يتعلق بضمان العدالة وإعادة الثقة بالنظام المالي”.
ودعا خلف المتضررين من قيود السحب إلى مطالبة الدولة بسداد مستحقاتهم، وفي الوقت ذاته، الإصرار على القيام بإصلاحات جذرية تحول دون تكرار مثل هذه الأزمات في المستقبل.
وتملك البنوك العاملة بالسوق المحلية أكثر من 70 في المئة من مجموع ودائع البنوك لدى البنك المركزي. وأدى فشل النظام المصرفي وانهيار العملة إلى تنامي دولرة الاقتصاد النقدي والذي يُقدر بنحو نصف إجمالي الناتج المحلي.
وبعد وقت وجيز من أزمة أكتوبر 2019 جمدت البنوك ودائع المتعاملين ومنعت تحويل النقود للخارج، بينما كانت السلطات تحاول البحث عن مخرج لهذه المشكلة لكن دون جدوى.
ورفع مودعون دعاوي قانونية متهمين البنوك بالإهمال والاحتيال وسط مخاوف من تبدد مدخراتهم، لكن أغلب البنوك نفت ارتكاب أيّ مخالفات وأكدت مرارا أن الودائع في أمان.
وعمّقت الإجراءات التي فرضتها السلطات لمكافحة الجائحة الأزمة القائمة في بلد يشهد فيه المودعون تهاوي قيمة مدخراتهم بسبب ارتفاع الأسعار وضعف العملة المحلية وفرض قيود وصلت في بعض الأحيان إلى السماح بسحب 100 دولار في الأسبوع.
وفرضت البنوك على مدار أشهر قيودا متصاعدة على سحب الأموال، حيث لا يمكن للزبائن في بعضها سحب أكثر من 800 دولار شهريا، مما تسبب في قيام بعض المودعين بالتهجم على بعض الفروع للحصول على مستحقاتهم.
وامتدت القيود بعد ذلك حتى على سحب الليرة، التي يشكل فك ارتباطها بالدولار كابوسا للمسؤولين نظرا إلى كونها شريان الحياة بالنسبة إلى نشاط القطاع المصرفي، قبل أن يتحول الاقتصاد إلى الدولرة في العام الماضي مع انهيار العملة بشكل غير مسبوق.
كما واجه أصحاب الودائع بالدولار قيودا على إجراء سحوبات نقدية إلا بتحويلها إلى الليرة وبسعر صرف أدنى بكثير من المتداول به في السوق السوداء.
وبينما تهدف السلطات من وراء الدولرة إلى تخفيف التضخم وتحقيق الاستقرار في الاقتصاد، فإنها تهدد أيضا بدفع المزيد من اللبنانيين إلى براثن الفقر وتعميق الأزمة.
وأكد خلف أن خسائر البنوك المحلية بلغت نحو 51 مليار دولار لغاية عام 2020. وقال إنها “من مسؤولية الدولة بحسب المادة 113 من قانون النقد والتسليف”.
وحمّل كذلك البنك المركزي مسؤولية هدر الودائع على دعم التهريب والتجار والليرة، والذي بلغ نحو 23 مليار دولار منذ بداية الأزمة من التوظيفات الإلزامية للبنوك، بينما لديه ديون مستحقة على الدولة تصل إلى 16.5 مليار دولار.
وفي ديسمبر الماضي، فتحت مجموعة من البنوك جبهة ضغط أخرى على الحكومة من أجل الإسراع في تسوية نزاعاتها مع المودعين، والتي تشتد يوميا مع غياب أيّ خطة ملموسة لحلها.
أرقام عن القطاع
• 51 مليار دولار خسائر البنوك المحلية لغاية عام 2020
• 23 مليار دولار قيمة ما أهدره المركزي منذ الأزمة
• 16.5 مليار دولار مستحقات البنك المركزي لدى الدولة
وقرر 11 بنكا حينها التقدم بمذكرة ربط نزاع مع الدولة لإلزامها بسداد مستحقات مترتبة لمصرف لبنان المركزي بقيمة تبلغ 67.9 مليار دولار، لأنه مدين لهذه المؤسسات المصرفية.
وتشمل البنوك التي اتجهت للقضاء البنك اللبناني السويسري والبنك اللبناني الفرنسي وبنك الاعتماد اللبناني وبنك البحر المتوسط وبنك بيبلوس وبنك بيروت وبنك بيروت والبلاد العربية وبنك عوده وبنك لبنان والمهجر وفرانس بنك وبنك سوسيتيه جنرال.
وتتهم هذه البنوك، التي لديها مقاعد في مجلس إدارة جمعية المصارف، البنك المركزي بالامتناع عن إعادة الودائع بالعملات الأجنبية إليها لكي تردها بدورها إلى المودعين.
ويرى خلف أن حق البنوك والمودعين على الدولة هو تحمل مسؤولية من بدّد الأموال على نفقات ومشاريع كثرت حولها علامات الاستفهام ولا توجد إجابات واضحة عن كل ذلك. وقال “يجب إعادة هيكلة الدولة تزامنا مع المصارف”.
وأضاف “رمي الدولة تبعات ارتكاباتها على البنوك والمودعين، تهربا من المسؤولية واعتمادها سياسة الأرض المحروقة للتعمية على الحقائق، ستودي بكامل القطاع المصرفي، وتقضي بالتالي على أي أمل باسترداد الودائع”.
وانضم المركزي منذ انتهاء فترة ولاية رياض سلامة إلى ركب معركة استرداد الودائع المجمدة، وهو تحول يدل على مدى امتعاض السلطات النقدية في ظل عدم اكتراث السلطات بحل المشكلة بينما تشكو فيه الدولة من أسوأ أزمة مالية على الإطلاق.
وطالب القائم بأعمال حاكم البنك المركزي وسيم منصوري في نوفمبر الماضي السلطات السياسية بإيجاد حلول للأزمة الاقتصادية ومسألة حصول المودعين على أموالهم من البنوك.
واعتبر أن الحل الوحيد لمعالجة المواضيع التي تهم المودعين هو في وضع القوانين. وقال إن “المحاسبة ضرورية، ولكن لا حل من دون قوانين لمعالجة الوضع”.
وأضاف “هناك ثلاثية ذهبية للتعافي هي تصحيح الاقتصاد، وتصحيح قطاع المصارف وتصحيح أوضاع المودعين. وإذا لم نعمل على تنفيذ هذه الثلاثية معا فلن نصل إلى نتيجة”. ولفت حينها إلى أن على اللبنانيين جميعا رفض أن يلعب البنك المركزي دورا ليس من مهمته.
وكانت الحكومة قد وقّعت مع صندوق النقد اتفاقا أوليا في أبريل 2022 للحصول على تمويل بقيمة 3 مليارات دولار، ومنذ ذلك الحين لم تفعل بيروت شيئا يبرهن على أنها جادة في برنامج الإصلاح.