يذكر اليابانيون حقبة التسعينات بكاملها بوصفها عقدًا ضائعًا أو مفقودًا، في إشارة إلى سنوات الركود الطويلة والمتتالية، والتي لم تشهد نموًا اقتصاديًا يُذكر. استعمال تلك العبارة، كانت طريقة الاقتصاديين المفضّلة في التحسّر على هذه المرحلة، التي فقد فيها جيلٌ كاملٌ فرص النمو في الأجر وفرص العمل والترقّي الاجتماعي. وتلك التجربة، باتت درسًا يُدرّس للشعوب، للدلالة على كلفة السياسات الاقتصاديّة والنقديّة الشعبويّة والخرقاء. فالعقد الضائع الياباني، لم يكن نتاج كارثة طبيعيّة أو غضب ربّاني، بل كان نتيجة سياسات حكوميّة متعمّدة، ومنها على سبيل المثال: تحويل المصارف اليابانيّة إلى “بنوك زومبي”، بعد امتلاء ميزانيّاتها بخسائر القروض المتعثّرة، وسماح السلطات بتأجيل الاعتراف بهذه الخسائر لسنوات طويلة. عبارة “البنوك الزومبي”، ولدت في اليابان يومها.
في حالة لبنان، كانت الأيّام الماضية مفصليّة على مستوى مآلات الأزمة الاقتصاديّة الراهنة، ولو أنّ الرأي العام لم يتناول هذه التطوّرات بالاهتمام اللازم. طريقة تعامل المسؤولين اللبنانيين مع جولة بعثة صندوق النقد، أوحت بأنّ جميع المعالجات العقلانيّة باتت وراءنا، ومنها برنامج الصندوق نفسه، الذي دُفن على مراحل، كان آخرها الأسبوع الماضي. هذه اللحظة الحسّاسة بالذات، هي الوقت المناسب لاستشراف شكل “العقد الضائع” اللبناني المقبل، الذي شاءت الأقدار أن تكون إحدى سماته –وتمامًا كحال اليابان في التسعينات- نظامًا ماليًا تهيمن عليه أشباه المصارف، أو “مصارف زومبي” كما وصفها اليابانيّون خلال عقدهم الضائع.
صناديق سوداء ومصارف زومبي
في العقد الضائع اللبناني، لن يتم الاعتراف بالخسائر المصرفيّة، ولن تتم معالجتها. ثمّة فارق شاسع بين إلتزامات المصارف بالعملة الأجنبيّة للمودعين، وما تبقّى من سيولة في القطاع المصرفي. وهذا تحديدًا ما يُسمّى في علوم المال خسائر غير مُعترف بها. ذلك ما يجعل المصارف اللبنانيّة “مصارف زومبي”، أي مصارف نصف ميّتة، تقتات من الدعم والغطاء الضمني الرسمي، للبقاء نصف حيّة. مصارف من هذا النوع، لن تستقطب أي ودائع جديدة، ولن تمنح الاقتصاد المحلّي أي تسليفات. هي مجرّد جثّة تمشي على قدميها، وتمتص ما تستطيع امتصاصه من خيرات المجتمع، تمامًا كما فعلت المصارف اليابانيّة في حقبة التسعينات.
في العقد الضائع، سيستمر أشاوس السياسة اللبنانيّة برفع سباباتهم عاليًا في الهواء، رافضين الخطط “التفليسيّة” التي تفرض الاعتراف بالخسائر، ومعالجتها بشكل عادل. سيتحدّثون عن قدسيّة الودائع، وسينشدون الشعر عن حقوق المودعين. هؤلاء، أكثر من يعلم أنّ “مصارف الزومبي” تهضم بمرور كل يوم ما تبقى من أموال المودعين. وهم يعلمون أنّ تأخّر استحقاق إعادة هيكلة المصارف يقلّص، بمرور كل يوم، قدرة المصارف على ضمان ما يمكن ضمانه من أموال الودائع. لكن لا بأس. طالما أن الشعبويّة تفي بالغرض، وتحمي القطاع المصرفي من استحقاق شطب رساميله في حال الاعتراف بالخسائر.
في المقابل، البديل عن إعادة هيكلة القطاع المصرفي كما طلبه صندوق النقد، هو كتلة من الأفكار حول صندوق ما، سيختص بإعادة “حقوق مودعين”. ثمّة إجماع سياسي حول هذا الصندوق، الذي سيحتكر استثمار المرافق العامّة وتلزيمها، لتسديد الودائع.
الأرقام تشير إلى أنّ الرهان على هذا الصندوق ضربٌ من العبث. ستمر عقودٌ من الزمن، من دون أن يسدد هذا الصندوق نسبة بسيطة من الودائع. أساسًا، أي عاقل سيفترض أن الدولة ستتمكّن من استقطاب شركات محترمة، للتنافس على استثمار أصولها، في ظل حالة من الانهيار المديد؟
لا بأس، مجددًا. غرض الصندوق ليس تسديد الودائع. هو مناسبة لإجراء حفلة تحاصص شاملة على أصول الدولة ومرافقها، لا أكثر. لن يهدف الصندوق إلى اجتذاب شركات دوليّة مرموقة، لتسدّد أفضل العوائد للصندوق. هذا صندوق مخصّص للغربان التي ستقتات على جيفة الدولة. هنا، يصبح مفهومًا التسابق المحموم بين أحزاب النظام السياسي، لتقديم مشاريع قوانين تتجاذب هذا الصندوق، وتختلف في هويّة الجهة التي ستديره.
على مدى السنوات المقبلة، سيكون الحال هكذا: نظام مالي متعفّن، لا يستقطب التحويلات من الخارج، ولا يضخ الأموال في الداخل. ونقاش اقتصادي وطني تحكمه الشعبويّة والشعارات الفارغة. وصندوق أسود تفوح منه رائحة الصفقات، كحال تجربة لبنان مع غيره من الصناديق (وإلا، فما غاية الصندوق، بوجود القوانين التي ترعى الشراكات مع القطاع الخاص؟).
الدولة المتحلّلة وتبييض الأموال واقتصاد الغابة
على امتداد العقد الضائع، سيتفشّى التهرّب الضريبي، تمامًا كما هو الحال اليوم، في ظل سيطرة اقتصاد النقد الورقي، بعيدًا عن القطاع المصرفي المتعثّر. وبما أنّ الشيء بالشيء يُذكّر، ومع هينمة اقتصاد النقد الورقي، وخصوصًا المدولر، ستتحوّل البلاد طوال تلك الحقبة إلى جنّة من جنان تبييض الأموال والعمليّات غير المشروعة، ما سيزيد تدريجيًا من العزلة الماليّة. في المرّة الماضية، تفادى لبنان بأعجوبة إدراجه على القائمة الرماديّة لمجموعة العمل المالي، بانتظار تحقيقه بعض شروط المجموعة. إلا أنّ هذا التسامح قد لا يستمر طويلًا.
مع تفشّي التهرّب الضريبي، ستخسر الدولة مواردها الضريبيّة المعتادة. وفي الوقت نفسه، ومع الشروع بوضع اليد على المرافق العامّة، لصالح مشروع “الصندوق” إيّاه (مهما يكن إسمه)، ستخسر الدولة ما تبقى من إيرادات كانت تحصّلها من رسوم استخدام المرافق والخدمات العامّة. وهكذا، سيصبح تحلّل الدولة وإداراتها الرسميّة هو القاعدة على المدى البعيد، تمامًا كما يحصل اليوم: إضراب موظفي القطاع العام، إقفال المدارس الرسميّة او الجامعة اللبنانيّة، اعتكاف القضاة…إلخ. كل هذه الظواهر ستكون المألوف، وسيكون عكسها الاستثناء.
على هذا النحو، وفي العقد الضائع، سيكون من العبث الرهان على أي خدمات عامّة، بما فيها أكثر هذه الخدمات حساسيّة: في قطاعات الصحّة والتربية والعدل.. وربما الأمن. مبدأ شبكات الحماية الاجتماعيّة، أو مبدأ الدولة الاجتماعيّة، سيُدفن مع دفن هذه الخدمات العامّة. سيختبر اللبنانيون معنى خسارة الدولة كمفهوم ودور، ولو لم يخسروا وجود السلطة بمعنى المؤسسات الرمزيّة، كما هو الحال الآن. سيختبرون خسارة كل ما يمكن الرهان عليه، لتحقيق الحد الأدنى من الرعاية، للفئات الأكثر هشاشة.
في بيئة هذا النوع، سيكون الأمر أشبه باقتصاد الغابة: البقاء لمن يستطيع إليه سبيلا، والهجرة لمن تضيق به سبل العيش. ستزداد أعداد المغتربين، وستزداد أعداد “السيّاح” (أي المغتربين الزوّار) في مواسم الصيف، وسنعتبر ذلك إنجازًا يُحتفى به. بل سنضع حملات إعلاميّة احتفاءً بذلك (مثل “أهلا بهالطلة…أهلا”). وهذا الاحتفاء طبعًا جزء من المشهد، ألم نقل أنّ هيمنة الخطاب الفارغ والأجوف سيكون جزءًا من العقد الضائع؟ ماذا ستبيع السلطة للجمهور في عقدٍ كهذا، إن لم تبع هذا الخطاب الفارغ؟ وعلى النحو نفسه، ستحكم الشعبويّة الفارغة أي نقاش سياسي، بعيدًا عن البحث في الحلول الواقعيّة: من مسائل الحريّات إلى موضوع اللاجئين.
الدولرة والهروب من السياسة النقديّة
في العقد الضائع، لن يكون بالإمكان وضع سياسة نقديّة منتظمة، بوجود قطاع مالي معطوب غير قادر على اجتذاب التحويلات أو الرساميل من الخارج. في بيئة كهذه، ستكون الدولرة الشاملة الهروب المنطقي الوحيد من استحقاق وضع السياسة النقديّة. وعلى هذا الأساس، يكون طبيعيًا أن تحاول الدولة استيفاء رسومها وضرائبها بالدولار، كما تحاول أن تفعل أساسًا في موازنة العام 2024. وسيكون طبيعيًا أن تشرّع وزارة الاقتصاد تسعير السلع بالدولار، أو أن يمتنع المصرف المركزي عن بيع الدولارات للدولة بحجّة “رفض تمويلها”، طالبًا من الدولة أن تؤمّن دولاراتها بنفسها. الدولرة، ستسحق جزءًا من المقيمين من أصحاب الرواتب المقوّمة بالليرة، وستكرّس فقدان سيادة الدولة على اقتصادها، لكنّها الحل الأخير المتاح خارج إطار الإصلاحات الشاملة.
كيف سيكون العقد الضائع اللبناني إذًا، بعد الإطاحة بجميع الحلول والمعالجات الشاملة؟ سيكون شبيهًا بما عاشه اللبنانيون منذ أواخر العام 2019: قطاع عام مهترء ومشلول، وقطاع مالي متعثّر لكن محمياً بقرار سياسي ضمني، وسياسة نقديّة عبثيّة. العقد الضائع سيكون ما نعيشه اليوم بالظبط، لكن على امتداد سنوات طويلة جدًا، وبما يكفي للقضاء على طموحات وآمال جيل كامل من المقيمين غير القادرين على الهجرة.
قد تبدو الصورة مأساويّة، لكن الوقوف عندها وتلخيصها ضروري جدًا، لنسأل سؤالًا واحدًا: لأجل من كل هذه التضحية، ولمصلحة من؟ لأجل من تؤخذ البلاد رهينة على هذا النحو؟