ما العمل للحدّ من ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق، بعد أن تبيّن فشل قرار ضخّ الأموال النقدية إلى الصرافين؟ الحلّ الوحيد الذي بات يُدركه كلّ «مُهندسي» النظام القائم هو في تغييره، ولكنّهم لا يزالون يُمانعون المسّ بما يؤمّن لهم المكتسبات، مُراهنين على تدفّق الأموال الجديدة من الخارج. وعدا عن الرهان، لا شيء سوى «الاعتماد على الله»
حلّ مشكلة «نشّ» الأسطح، وتسرّب المياه إلى داخل المنازل، لا يتمّ عبر وضع دلو لالتقاط النقاط داخل المنزل، أو إجراء «ترقيعات» طفيفة. الأساس يكمن في تحديد مصدر التسرّب وسدّه، ثمّ تبدأ مرحلة تعبئة الشقوق وصيانتها دورياً. المنطق نفسه يُفترض أن يُستخدم لحلّ أيّ أزمة من الأزمات، وبينها مشكلة انفلات سعر الدولار في لبنان. «المحافظة على سلامة النقد اللبناني»، تأتي على رأس المادّة 70 من قانون النقد والتسليف، أي أنّها مسؤولية المصرف المركزي. ولكنّ الحكومة قرّرت المشاركة في العلاج، من دون أن يسمح لها حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، بذلك تماماً، ثم اكتفى بتوزيع كتلة نقدية من الدولارات يومياً على الصرّافين. ما جرى يُشبه عملياً إقفال شقّ مياه عميق بورقة رقيقة، فكانت النتيجة انقلاب وعد رئيس مجلس النواب نبيه برّي من تراجع سعر صرف الليرة مقابل الدولار إلى 3200 ليرة، وتحوّله إلى ارتفاع ضخم و«غير مُبرّر» بعد أن لامس سعر الدولار في السوق السوداء حدود الـ7900 ليرة. أول من أمس، قرّرت الحكومة التراجع خطوة إلى الخلف وإعادة المسؤولية إلى ملعب المصرف المركزي. «هذا الأمر من مسؤولية مصرف لبنان الذي يحدد طريقة معالجة ارتفاع سعر الدولار. هو المسؤول عن حفظ سعر صرف الليرة اللبنانية. إذا كان عاجزاً عن معالجة أزمة ارتفاع سعر صرف الدولار، عليه مصارحتنا بالأسباب وتسمية من يمنعه من ذلك، ومن يتدخل»، بحسب ما قال رئيس الحكومة حسّان دياب. إلا أنّ الواجب أيضاً على كلّ المسؤولين أن يُصارحوا المودعين والمواطنين بأنّ كلّ حقنات الدولار في السوق لن تؤدّي سوى إلى دفع سعر الدولار إلى الارتفاع أكثر فأكثر، طالما لا يزال مُحرّماً المسّ بأصل العلّة. تماماً كوجوب إيضاح أنّ التهافت على تصريف الدولار، ودخول البعض بلعبة «المضاربة» على العملة يُعدّان «أمراً سامّاً»، ويُفاقمان من ارتفاع سعر الصرف. علماً بأنّ الظروف الاجتماعية – الاقتصادية المفروضة على الناس، المُجرّدين أصلاً من أي وسائل دفاعية، باتت أكبر من قدرة السكان على التحمّل، وبحثهم عن تأمين «ضمانة بالدولار» يُعتبر مفهوماً.
ارتفاع السعر بهذه الطريقة يصفه أحد نواب لجنة المال والموازنة النيابية (ويُعتبر مُقرّباً من القطاع المصرفي) بالـ«مستغرب»، لأنّ حجم التبادل التجاري «حالياً صغير نسبةً إلى ما كان عليه سابقاً. القصّة مُعقّدة، وأسوأ أنواع الأزمات أنّ الناس بدأوا يصرفون من مدخراتهم، بغياب تبادل السلع». مدير أحد المصارف يتحدّث أيضاً عن «أمرٍ غير بريء، لا يصبّ سوى في مصلحة السوق الرديفة». الحركة النقدية المُستغربة يعتبرها أحد رجال الأعمال البارزين مزيجاً بين «أزمة داخلية نتيجة السياسات المُتبعة وتوقّف تدفّق الدولارات إلى البلد»، وبين الضغوط السياسية الممارسة على لبنان «من جانب الولايات المتحدة لإجبار حزب الله على تقديم التنازلات، والإتيان بحكومة حليفة لواشنطن، مُقابل الإفراج عن المساعدات». ولا يستبعد وجود «تواطؤ سياسي داخلي، من أطراف ترغب أيضاً في حلّ حكومة حسّان دياب، وتشكيل مجلس وزراء من الأصيلين». أما أحد الذين عملوا على وضع «خطة الإنقاذ المالي» للحكومة، فيُعيد السبب إلى «لعبة مصرف لبنان بالتعاميم التي تسمح للناس بسحب كتل نقدية كبيرة بالليرة»، ما أدّى إلى زيادة الكتلة النقدية المتداولة في السوق في نهاية أيار 17844 مليار ليرة، مقارنة مع 7305 مليارات ليرة في نهاية تشرين الأول الماضي، بحسب إحصاءات مصرف لبنان. وجُزء من زيادة الكتلة النقدية في السوق أيضاً هو نتيجة طبع العملة «لدفع رواتب الموظفين بعد أن تراجع خلال الأشهر الماضية استيفاء الضرائب، وتشجيع الناس على سحب ودائعهم، فيكون المركزي بذلك قد قلّص الفارق بين الموجودات والمطلوبات في موازنته».
مجلس الوزراء لا يملك خطة حقيقية لمواكبة الانهيار في سعر الصرف
هي مجموعة من العوامل، الداخلية والخارجية، اتّحدت لتدفع بالدولار صعوداً. ولكن هل يُعقل أنّه لا توجد طريقة لضبطه؟ رياض سلامة، الحاكم رقم واحد في الإقليم، بات عاجزاً عن الحفاظ على واحد من أسمى واجبات وظيفته؟
«لأ ما بينعمل شي»، يجزم أحد أساتذة الاقتصاد، شارحاً أنّ الأمر من مسؤولية المصرف المركزي «ولكن إذا تدخّل عبر الضخّ ممّا تبقّى من حساب الاحتياط الإلزامي (أموال المودعين التي تودعها المصارف لدى «المركزي»)، فسيستنزف الاحتياط من دون أن يلجم الطلب على الدولار في السوق». في اقتصاد يقوم على استقطاب الودائع وتوظيفها في العقارات والدين الحكومي، من دون القيام بمشاريع إنتاجية وزراعية وصناعية هادفة، يُعتبر انقطاع «الورقة الخضراء» مساوياً لانقطاع الأوكسجين عن رئتَي الإنسان، والخطورة الأكبر أنّه لا توجد نية لنَسف هذا النظام وإرساء آخر يكون في خدمة الأكثرية. لذلك يسأل أحد المُطلعين على الملفّ أنّه «في غياب الإنتاج، وتراجع قيمة التحويلات التي تصل عبر شركات التحويل، ورفض سلامة تلبية طلبات المصارف إعطاءها الدولارات النقدية، أكان لتلبية طلبات الزبائن أم إطفاء خسائرها في مصارف المراسلة التي بلغت قرابة الـ3 مليارات ونصف مليار دولار، كيف سينخفض سعر الصرف؟». يُعوّل سلامة في مجالسه على استقطاب أموال جديدة، وعلى «صندوق الأوكسجين» الذي أعلن سابقاً عنه، وهو جمع تبرعات بقيمة 750 مليون دولار قد تصل إلى 3 مليارات دولار، ولكن يجري التقليل من فرص نجاحه. كما يذكر استعادة بعض السندات من المصارف، وإعادة إقراضها بفائدة 1%… بالنسبة إلى مدير أحد المصارف «قد تكون إعادة هيكلة سريعة للدين العام هي جزءاً من الحل، ولكن الأساس هو بصدمة إيجابية تُعيد الثقة. العملة مُجرّد ورقة، قيمتها بالثقة التي تخلقها». أما النائب المصرفي، فيجزم بأنّه «لا يُمكن خلق وجود من العدم. القصة تحتاج إلى سلطة سياسية تملك القرار، وتُباشر بإصلاحات بنيوية. فلا يُمكن لأي اقتصاد أن يعمل من دون أداة تمويل».
وبماذا تُفكّر الحكومة؟
مجلس الوزراء لا يملك خطة حقيقية لمواكبة الانهيار في سعر الصرف. يقول أحد الوزراء بأنّ السياسة النقدية «من مسؤولية المصرف المركزي»، مُضيفاً أنّه «نتوقع مع فتح المطار في تموز، تدفق عملة صعبة، يُمكن أن يُصبح الضخّ إيجابياً. بالإضافة إلى تحسّن الجباية في أشهر تموز وآب وأيلول، مع انخفاض الاستيراد، ما يؤدي إلى تغييرات في ميزان المدفوعات». وعدا عن هذه الرهانات؟ لا شيء. «الأمر متروك للسماء»!