أهملت السياسات الحكومية المتعاقبة القطاع الصناعي اللبناني على مَر السنوات لمصلحة الاستيراد العشوائي المدعوم من المَحظيين وأصحاب الكارتيلات، وشهدنا على سياسة تدمير مُمنهج للقطاع أدّت الى تراجع عدد المصانع اللبنانية من 22 ألفاً حتى العام 1998 الى حوالى 6300 مصنع مرخّص حالياً، يُضاف اليها حوالى 2000 مصنع غير مرخصة تعمل بطريقة غير شرعية ومن دون مراقبة.
وأدّى إهمال متطلبات القطاع الصناعي الى إقفال صناعات رئيسية كانت رائدة في لبنان والشرق والاوسط، مثل صناعة الأحذية والالبسة والنسيج والزجاج، إذ تظهر الإحصاءات تراجعاً في عدد مصانع الأحذية من 1200 عام 1995 الى 20 أو أقل حالياً، ومن 3004 مصانع للألبسة و604 مصانع للمنسوجات عام 1994 الى 273 مصنعاً حالياً، فهل تقلب الأزمة المالية التي يمر بها لبنان راهناً الموازين لمصلحة الصناعة اللبنانية؟ وهل باتت الظروف مؤاتية لتنفض بعض الصناعات المُهمَلة الغبار عنها؟
يقول مدير عام وزارة الصناعة داني جدعون انه ربما أدّت الأزمة الحالية وتراجع الاستيراد الى انتعاش بعض القطاعات الصناعية، مثل صناعة الشوكولا ومواد التعقيم والتنظيف، إنما هذا الامر لا ينسحب على كل القطاعات. فعلى سبيل المثال تراجعت صناعة الورق والكرتون بسبب التوجه نحو «الأونلاين». وتابع: كما يلاحظ انه بسبب تراجع القدرة الشرائية يتّجه المواطن لصناعة ما أمكَن يدوياً «شغل البيت»، وتفضيل المنتجات اللبنانية على غيرها.
واعتبر جدعون انه يمكن قياس حجم الاستثمارات في القطاع الصناعي من خلال مؤشر الواردات من المعدات والآلات الصناعية، والتي تعكس إمّا التوسّع في الاستثمارات او الشروع باستثمارات جديدة او إضافة خطوط إنتاج جديدة. وقد بلغ حجم الاستثمار في القطاع الصناعي خلال النصف الأول من العام الحالي 57 مليون دولار، مقارنة مع 129 مليون دولار في الفترة نفسها من العام الماضي، وأكثر من 169 مليون دولار في العام 2018، أي بلغ التراجع نسبة 57 % مقارنة مع العام السابق و69 % مقارنة مع العام 2018، لافتاً الى انّ غالبية الاستثمارات صَبّت لمصلحة الصناعات الغذائية.
ورداً على سؤال، أوضح انّ الأزمة الاقتصادية وكورونا أدّيا الى إقفال بعض المصانع، وتراجع حجم الصادرات خلال النصف الأول من العام بنحو 20 %، مقارنة مع الفترة نفسها من العام السابق و16 % عن السنة التي سبقت.
من جهته، يقول نائب رئيس جمعية الصناعيين النقيب السابق للصناعات الغذائية جورج نصراوي انّ بعض القطاعات الصناعية شهدت نهضة مؤخراً، لا سيما الصناعات الغذائية والاستهلاكية والادوية، أي زاد الطلب في السوق المحلي على كل الصناعات التي تتعلق مباشرة بالمستهلك. ورأى انّ نسبة ارتفاع الطلب تختلف باختلاف القطاعات، إنما زادَ الطلب في الصناعات الغذائية ما بين 20 الى 25 %.
لكنّ نصراوي أكد انه لا تزال التحديات الأساسية على ما هي عليه رغم هذا النمو في القطاع الصناعي، مع فارق بسيط تَمثّلَ ارتفاع الطلب على الإنتاج المحلي. فنحن لا زلنا نعاني الإغراق الذي يتزايَد من بعض الدول، لا سيما تلك التي تؤثر على إنتاجنا، مثل تركيا ومصر وسوريا والأردن، لأنّ صادرات هذه الدول تشكّل منافسة قوية لنا، على عكس الاستيراد الأوروبي. كما اننا ما زلنا نعاني تداعيات التهريب الذي لم يقف.
ورداً على سؤال، أكد نصراوي انه خلال الفترة الماضية زادت بعض المصانع المحلية من طاقتها التشغيلية، وبدأت في تصنيع أصناف ومنتجات لبنانية جديدة لِسد النقص الناتج عن تراجع الاستيراد، لا سيما في الصناعات الغذائية والصناعات الاستهلاكية، مثل مواد التعقيم والتطهير والتنظيف، الشامبو… لِيَخلص الى القول انّ حصة الصناعة الوطنية من السوق المحلي زادت بنتيجة هذه الأزمة بحدود 20 %، مع تأكيده على قدرة المصانع اللبنانية على تلبية نسبة أكبر من ذلك، لافتاً الى انّ بعض المصانع اللبنانية، ورغم ارتفاع الطلب على الإنتاج المحلي، تعمل اليوم بثلث قدرتها الإنتاجية فقط، بما يعني انّ للمصانع اللبنانية قدرة أكبر على الإنتاج والتصنيع ممّا هو حاصل اليوم، لا سيما في القطاعات الاستهلاكية والدوائية والغذائية.
وعمّا اذا كان تراجع الاستيراد قد ساهم في نفض الغبار عن صناعات لبنانية كانت متروكة؟ قال: للأسف هذه القطاعات لا تزال تَلقى منافسة قوية من الاستيراد، لا سيما منها قطاعي الألبسة والاحذية، أمّا انسحاب بعض العلامات التجارية من السوق فأتى بغالبيته من العلامات الفاخرة، بينما لا تزال غالبية البضاعة، لا سيما منها المستوردة من تركيا والصين، تنافس بقوة الصناعة المحلية. واعتبر نصراوي انه كي تتمكّن هذه القطاعات من النهوض مجدداً، يجب أولاً فَرض رسوم جمركية على هذه المستوردات حمايةً للإنتاج المحلي، خصوصاً انها قطاعات واعدة وفي الوقت عينه من شأن هذه الخطوة أن تَدرّ أموالاً على خزينة الدولة.
وأضاف: مؤخّراً، زاد الطلب على قطاع الأغذية الذي بات ينتج أصنافاً جديدة بديلة عن الاستيراد، أمّا قطاع الألبسة فيسجّل تحسّناً طفيفاً، لكن في حال وضعت ضوابط على الاستيراد من تركيا والصين، يمكن للقطاع ان يكون واعداً. وكذلك يسجّل قطاع النجارة تحسناً، ويعدّ قطاعاً واعداً في لبنان، كما تحسّن العمل في قطاع الالمينيوم.