“حتى في عز الحرب الأهلية لم يكن الوضع الاقتصادي بهذا السوء”، عبارة يرددها أمامنا كثيرون ممّن خبروا تلك الفترة، ويعيشون يوميات الأزمة الاقتصادية اليوم. كل ما حولنا يُنذر بالأسوأ، وبالآتي الأعظم. المؤشرات الاقتصادية سلبية جداً، هذا ما يجمع عليه الخبراء الاقتصاديون. النمو يلامس حدود الصفر، والانكماش ـ 1 بالمئة، ومن المتوقّع أن يصل حد ـ 2 أو ـ 3 بالمئة عام 2020. مئات المؤسسات أقفلت أبوابها، وعشرات الآلاف من العمال باتوا عاطلين عن العمل. هذا الواقع المتردي لا شك أنّه نتاج السياسات الاقتصادية المتردية منذ عقود حتى اليوم، إلا أنّه ما كان ليكون بهذا السوء غير المسبوق، لولا الأيادي الخارجية التي قرّرت العبث باستقرار لبنان عبر أدواتها في الداخل. فلبنان ورغم كل ما يعتري ماليته العامة من مديونية، بقي اقتصاده حتى الأمس القريب واقفاً على رجليه، قبل أن يبدأ تنفيذ السيناريو الخارجي المتمثّل بالتلاعب بسعر صرف الليرة. الخارج استغلّ نقطة ضعف لبنان المتمثّلة بالعجز الكبير في الميزان التجاري. لبنان يستورد بقيمة 20 مليار دولار، ويصدّر بقيمة 3 مليارات دولار، أي إنّ عجزه يبلغ 17 ملياراً يحتاج الى تأمينها لتغطية كافة حاجات السوق من السلع.
عرف الخارج إذاً من أين تؤكل الكتف، فركب موجة الحراك، وتلاعب بسعر الصرف كمقدّمة لتطويع لبنان سياسياً، وهو الأمر الذي بدأت تتكشّف ملامحه من خلال الضغوطات الخارجية لمنع تشكيل حكومة فاعلة. ومن خلال ما يُقرأ في البيانات المتتالية لوكالات التصنيف العالمية معروفة التبعية. ما قاله تقرير وكالة “فيتش” الأخير لجهة التشجيع على إبرام اتفاق بين لبنان وصندوق النقد الدولي كمقدمة لحل الأزمة المالية، بعد أن أعلن بعد لبنان درجتين عن “التخلّف عن السداد”، ما قاله هذا التقرير خير دليل على المحاولات الخارجية الساعية لبسط الوصاية الخارجية على لبنان. فماذا يعني إخضاع لبنان لصندوق النقد الدولي؟ وما خطورة هذه الخطوة؟.
عز الدين: أي مساعدات يراد منها المس بالسيادة الوطنية مرفوضة
لدى سؤاله عن خطورة ما يروج له من إخضاع لبنان لصندوق النقد الدولي، يعتبر عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب حسن عز الدين أنّ أي مساعدات مالية أو اقتصادية يراد من خلالها المساس بالسيادة أو الهوية الوطنية أو بالقرار الوطني فهي مرفوضة، وكل ما دون هذا الهدف أمر قابل للنقاش. ويؤكّد عز الدين أنه وحتى الآن فإنّ المساعدات التي ستقدم يُشتم منها رائحة الشروط والاملاءات، وهذا الأمر مرفوض ويبقى رهن إرادة اللبنانيين الذين يفاوضون في هذا الاطار. ويُشدّد عز الدين على أنّنا نؤيد السياسات التي تصب في مصلحة اللبنانيين مع عدم المس بحقوقهم خصوصاً الطبقة الفقيرة.
وفي حديث لموقع “العهد” الإخباري، يعتبر عز الدين أنّ السياسات غير الموضوعية وغير الرؤيوية وغير القادرة على بناء اقتصاد منتج والتي اعتمدها الداخل على مدى أكثر من ثلاثة عقود أوصلت البلد الى حالة من التردي والافلاس، وأصبح بموجبها مرهونا ومديونا. إلا أنه ورغم ما نحن فيه من أزمة مستعصية فإنّ الأوان لم يفت ـ وفق عز الدين ـ اذا بدأنا بمقاربة الأمور بذهنية جديدة لمعالجة الوضع الاقتصادي والنقدي وبالتعاون مع “سيدر” وتنفيذ الاصلاحات التي هي مطلبنا لجهة منع الفساد والهدر والمطالية بموزانة شفافة.
بالنسبة للمتحدّث، باستطاعتنا حل مشاكلنا بأنفسنا، والمحافظة على سيادتنا عبر تعاوننا جميعاً للخروج من الازمة، ولا مانع من المساعدات الدولية غير المشروطة التي لا تصادر قرارنا السياسي، لأنّ في تلك المصادرة تداعيات قاسية جداً على لبنان واللبنانيين الذين دفعوا تضحيات كبيرة لأجل الحفاظ على الوطن واستقلاله وقراره المستقل.
وزني: شروط الصندوق قاسية جداً جداً
الخبير الاقتصادي الدكتور غازي وزني يشرح لموقعنا ما المقصود بإخضاع لبنان لصندوق النقد الدولي، فيلفت الى أنّ بعض الدول التي تواجه تخلفاً في سداد الدين العام وصعوبات مالية ومصرفية واقتصادية، وتجد نفسها عاجزة عن الخروج منها، لا بل تتجه نحو المزيد من الانحدار، ولا تملك القدرة على ايجاد الحلول بمفردها، تلجأ الى صندوق النقد الدولي الذي هو مؤسسة مالية دولية. ويوضح وزني أنّ التوجه نحو صندوق النقد الدولي يتخذ شكلين: في الحالة الأولى تستطيع الدولة الطلب من الصندوق أو البنك الدولي تقديم مساعدات تقنية كنصائح أو ارشادات أو توصيات تقنية تتبناها الدولة وتبدأ العمل على تنفيذها بعيداً عن الاجراءات الحادة، وهنا يكون دور صندوق النقد الدولي المواكبة فقط.
أما الحالة الثانية أو الشكل الآخر فتلجأ اليه الدول في حال تفاقمت الأزمة ولم يحل أزمتها الدور الاشرافي للصندوق، وهنا تدخل الدول في برنامج مع صندوق “النقد الدولي” لمعالجة أزمتها، وفي المقابل يفرض الصندوق عليها شروطاً تتعلق بكافة المواضيع الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية. وعلى سبيل التبسيط، ـ يقول وزني ـ فإنّ صندوق النقد الدولي ولمجرد دخول لبنان الى برنامجه يستطيع أن يفرض عليه شروطاً تتعلّق بالسياسة النقدية المتبعة. مثال على ذلك، نحن نعمد الى سياسة تثبيت سعر العملة فيرى الصندوق أنها غير مجدية ويفرض علينا تعويم العملة، أو كأن يرسم للبنان الكيفية التي سيوفي بها ديونه لأن لديه ديونا بالعملات الأجنبية والمحلية، فيرسم له كيفية توزيعها. وحول القطاع المصرفي، يضع للبنان النصائح فيما يتعلق بالودائع كأن يحث على الاقتطاع منها أم لا، أو كأن يرسم سياسة المالية العامة في الكثير من الملفات منها التوظيف.
ويؤكّد وزني أنّ لبنان ولمجرد دخوله في برنامج الصندوق، يصبح بالتأكيد مضطراً للخضوع لكافة أنواع الشروط التي يمليها الصندوق ولرؤيته في معالجة الازمة في القطاع المصرفي والمالية العامة وديون الدولة السيادية. ومن هنا، يشدد على أن الشروط التي يفرضها الصندوق تكون قاسية جداً جداً ويدفع الجميع ثمنها من المواطن الى المودع الى الموظف الى الاقتصاد. الصندوق ـ برأي وزني ـ يتسلّح بأنه يقدم مقابل هذه الشروط دعما ماليا (3 أو 4 مليار دولار)، ويرسم معالجة اقتصادية ويفتح الاسواق المالية العالمية ليعيد الثقة بلبنان الذي يجد نفسه ملزماً بتنفيذ الشروط مقابل التقديمات التي بالتأكيد ستكون كلفتها باهظة جدا اقتصاديا وماليا واجتماعياً وسياسياً.
ويستعرض وزني نماذج من الدول التي خضعت لصندوق النقد الدولي، فيستحضر تجربة قبرص (2015)، واليونان (2012)، ومصر (2017). وفي هذا السياق، يقول وزني “صحيح أن الامور الداخلية والأزمة الحاصلة تجعلنا عاجزين وبحاجة الى دعم خارجي، لكنّ هذا الدعم ليس بالضرورة أن يكون عبر اخضاعنا لبرنامج الصندوق، بل باستطاعة البنك الدولي مدنا بتوصيات وإرشادات تقنية، وباستطاعتنا تلقي الدعم من المجتمع الدولي للخروج من الأزمة”.
ويختم وزني حديثه بالاشارة الى أننا نعيش ظرفاً استثنائيا لم يمر علينا حتى في عز الحرب الاهلية حيث بقيت في حينها الاموال والسحوبات متوفرة ولم يصَر الى فرض أي قيود على المودعين.