تتميّز الأرجنتين بتاريخ طويل في طباعة النقود لتغطية الإنفاق المبالغ فيه للحكومة، وهذا ترتّب عليه ارتفاع التضخّم، بل وانفلاته، لفترات زمنية طويلة. وبالتالي، لا عجب في أن الدولة الواقعة في أميركا الجنوبية تدرس بين فترة وأخرى اتخاذ خطوة جذرية تُعرف باسم الدولرة، والتي لم تختبرها بشكل كامل حتى الآن سوى دول ذات اقتصادات أصغر بكثير.
1) ما هي الدولرة؟
تعني الدولرة اعتماد الدولار الأميركي عملة رسمية للبلاد ووحدة للحساب فيها. ويُقصد بالدولرة الكاملة استبدال كل الأوراق النقدية المحلية المتداولة بالعملة الخضراء، مع تحويل قيمة جميع الأصول والعقود إلى الدولار. وقد تتّخذ دولة ما هذه الخطوة بقرار منفرد، ومن دون إجراء مشاورات مع الولايات المتحدة. (هناك مصطلح لا يرتبط بهذه الحالة هو «إزالة الدولرة»، ويشير إلى الجهود الدورية التي تسعى إلى تحدّي هيمنة الدولار على التجارة الدولية ومكانته بوصفه عملة الاحتياط الدولية من الناحية الفعلية).
2) أيّ دول تستخدم الدولار إلى جانب الولايات المتحدة؟
تشمل الدول الأربع ذات السيادة التي تخلت عن عملاتها واعتمدت الدولار الأميركي كلاً من: بنما، التي تخلّت عن البيزو واعتمدت الدولار عملة رسمية لها عند استقلالها عن كولومبيا في 1904. ولدى بنما عملة وطنية هي «البالبوا»، لكنّ قيمتها ثابتة أمام الدولار بنسبة واحد إلى واحد.
الإكوادور، التي هجرت «السوكري» واعتمدت الدولار عملة رسمية لها في عام 2000.
تيمور الشرقية، التي تخلت عن الروبية لصالح الدولار بعد حصولها على الاستقلال عن إندونيسيا في 2002، والتي تقتسم معها جزيرة تيمور في جنوب آسيا.
السلفادور، التي تخلت فعلياً عن عملة «الكولون» في 2001 –على الرغم من أنها لا تزال عملة رسمية خارج التداول– واستخدمت بدلاً منها الدولار الأميركي. وفي عام 2021، أضافت السلفادور «بتكوين» كعملة رسمية أخرى.
تحوّلت زيمبابوي إلى استخدام الدولار في عام 2009، بعدما انهارت العملة المحلية وتسبّب انفلات معدّل التضخم في القضاء على المدّخرات، ثم عادت إلى استخدام دولار زيمبابوي في عام 2019، محقّقة نجاحاً متبايناً.
تستخدم دول عدة وأقاليم صغيرة أخرى العملة الأميركية، ويرجع ذلك في معظم الأحوال إلى صغر حجم الاقتصاد فيها، أو لأن لديها علاقات تاريخية قوية مع الولايات المتحدة. وتضم هذه الدول الصغيرة جزر العذراء البريطانية، وجزيرة «بونير» الهولندية في الكاريبي، وولايات ميكرونيسيا المتحدة، وجزيرة بالاو، وجزر مارشال أيلاندز في غرب المحيط الهادئ.
3) لماذا تلجأ دولة ما إلى الدولرة؟
عندما تعتمد دولة عملة أخرى، فإنها بذلك تتخلّى عن سلطتها في طباعة النقود، وتقضي بهذه الطريقة على القاطرة الأساسية وراء زيادة التضخم. ولذلك، فإن الدولرة جزئياً شكل من أشكال الخضوع السياسي: فهي إقرار بفقدان الثقة في قدرة المسؤولين المنتخبين والمعيّنين على إدارة سياسة مالية مستدامة.
قال اقتصاديو صندوق النقد الدولي في ورقة بحثية صدرت عام 2000، إن الميزة الأساسية في عملية الدولرة الكاملة هي «القضاء على خطر انخفاض عملة الدولة انخفاضاً حاداً ومفاجئاً. وقد يسمح ذلك لتلك الدولة بتخفيض علاوة المخاطر المرتبطة باقتراضها من الخارج».
4) هل مرّت دول بهذه التجربة؟
في معظم الأحوال، نعم. فقد استبدلت الإكوادور، مثلاً، عملة «السوكري» واستخدمت الدولار الأميركي بعد عقد من الزمن شهد ارتفاع متوسط معدل التضخم إلى 40% سنوياً. وقد ساعد ذلك على استقرار الأوضاع المالية واستعادة الثقة في القطاع المصرفي في نهاية المطاف. وتراجعت معدّلات التضخم بوتيرة سريعة على الرغم من ارتفاع الأسعار في البداية بنسبة 91% في عام 2000، لأن الحكومة حدّدت سعر الصرف النهائي عند مستوى ضعيف بصورة مصطنعة إلى حد كبير. ومنذ عام 2003، استقر متوسط معدّل التضخم دون مستوى 3%. وعلى الرغم من ذلك لم تكن هناك طفرة كبيرة في النمو. فمنذ عام 2015، بلغ متوسط معدل النمو الاقتصادي مستوى يقلّ عن 3%، مع استبعاد أزمة الوباء في 2020. وتكشف أرقام البنك الدولي عن تدهور نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي.
5) لماذا أصبحت الدولرة موضوعاً مهماً في الأرجنتين؟
اقترح رئيس الأرجنتين الجديد خافيير ميلي دولرة الاقتصاد أثناء حملته الانتخابية التي انتهت بفوزه في الانتخابات. فقد ركز ذلك الشعبوي اللامع ونصير الاقتصاد الحرّ في برنامجه على ترويض معدّل التضخّم الذي تجاوز 160% في تشرين الثاني. غير أنه لم يذكر شيئاً عن الدولرة في أول خطاب رئاسي له في 10 كانون الأول، ولم تكن جزءاً من الإجراءات الأولى «للعلاج بالصدمة» التي أعلن عنها لانتشال اقتصاد الأرجنتين من حالة الفوضى المرعبة.
ربطت الأرجنتين البيزو بالدولار الأميركي في أوائل تسعينات القرن الماضي، وذلك لمواجهة ارتفاع التضخم. وأعلن رئيسها آنذاك كارلوس منعم نيته للتحول إلى الدولرة الكاملة في عام 1999. غير أن ربط العملة المحلية بالدولار انهار تماماً أثناء فترة من الركود العميق، وألغى الرئيس إدواردو دوهالدي ربط العملة بالدولار بنسبة واحد إلى واحد في أوائل عام 2002.
6) هل الأرجنتين مستعدّة لهذه الخطوة؟
تشكل عملية الدولرة تحدياً مالياً كبيراً، وذلك لأن البنك المركزي سيكون بحاجة إلى احتياطي دولاري لا يكفي لشراء كل النقود المتداولة فحسب، وإنما أيضاً يوفر للبنوك احتياطات معتبرة لمواجهة أي زيادة محتملة في سحب الودائع.
يقدّر محللون في الأرجنتين صافي الاحتياطي الأجنبي عند مستوى منخفض يتراوح بين سالب 6.5 مليارات دولار وسالب 10 مليارات دولار، أو بما يقل بنحو 50 مليار دولار عن المستوى الضروري قبل دراسة عملية الدولرة. (لا ينشر البنك المركزي في الأرجنتين أرقام صافي الاحتياطي الأجنبي، بل ينشر فقط إجمالي هذا الاحتياطي، والذي يضمّ جميع أنواع الأصول غير السائلة).
تستطيع الدولة أن تملأ تلك الفجوة عن طريق جمع تمويل من المستثمرين الأجانب في سوق السندات، وتخفيض سعر الصرف الرسمي. غير أنه، حتى في تلك الظروف، قد تفشل عملية التحوّل إلى استخدام الدولار نتيجة هرولة المودعين إلى سحب أموالهم من البنوك في وقت واحد، ما يدفع البلاد باتجاه انفلات معدّل التضخم.
7) ما هي سلبيات الدولرة؟
إن أكبر مشكلة ارتبطت بعملية الدولرة هي خسارة استقلال السياسة النقدية. فالدول التي تعتمد العملة الخضراء عملة رسمية لها لا تستطيع ضبط أسعار الفائدة لإدارة عرض النقود استجابة لتغير الأوضاع الاقتصادية. فهذه الوظيفة تنتقل بالضرورة إلى الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الذي يحدّد أسعار الفائدة وفق احتياجات الاقتصاد في الولايات المتحدة.
قد يعني ذلك في بعض الأحيان اختلالاً في الأولويات. فعلى سبيل المثال، يُنتظر أن ينكمش اقتصاد الأرجنتين بنسبة 3% في عام 2023، بحسب استطلاع أجرته بلومبرغ، في وقت يجري فيه «الاحتياطي الفيدرالي» تشديداً لسياسته النقدية بهدف مكافحة التضخم.
عملية الدولرة أيضاً لا تفرض في ذاتها انضباطاً مالياً على القيادات الحكومية، وإنما يقتصر دورها على تقويض القدرة على تجنّب التعثّر في سداد الالتزامات من خلال طباعة النقود.
لهذه الأسباب، يعتقد كثير من الاقتصاديين أنه إذا استطاعت الدولة أن تحقّق الانضباط اللازم لتجنّب التعثر، فمن الأفضل لها أن تحتفظ بعملتها الخاصة، مع تعويم سعر الصرف، واتباع سياسة رشيدة لاستهداف التضخّم من جانب البنك المركزي.
8) ما هي وجهة نظر الولايات المتحدة ومسؤولي المؤسسات المالية الدولية؟
ينصح المسؤولون في وزارة الخزانة الأميركية عادة تلك الدول التي تدرس الانتقال إلى استخدام الدولار بدلاً من عملتها بأن هذه العملية ليست بديلاً عن تطبيق سياسة سليمة في إدارة الاقتصاد الكلي، بما في ذلك الإدارة المالية المسؤولة. وبعد اعتماد الإكوادور الدولار الأميركي عملة رسمية لها في عام 2000، قدّم صندوق النقد الدولي مع الولايات المتحدة إرشادات فنية حول إدارة عملية الانتقال، ووافق الصندوق بسرعة على اتفاقية قرض مساند مرتبطة بتعهدات ضبط الموازنة.