قُضي الأمر، فخرج حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من مبنى المصرف، على وقع الزغاريد والزفّات، في مشهد احتفالي ركيك ومفتعل. بالنسبة إلى كثير من اللبنانيين، كان المشهد المسرحي كافيًا لإثارة مشاعر الاستفزاز والضغينة، كما عكست التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي. فوجه سلامة البشوش في آخر ساعات ولايته حمل رمزيّة خاصّة، كنتيجة بائسة ومؤسفة لثقافة الإفلات من العقاب. صورة سلامة المحتفي اليوم، وتمامًا كصور المدعى عليهم في ملف انفجار المرفأ بعد إطلاق سراحهم منذ أشهر، ذكّرت اللبنانيين بأنّهم يعيشون في شريعة غاب، تتوحّش في عوالم النقد والمال والمصارف، تمامًا كما تتوحّش في عوالم النيترات والأمن والميليشيات.
لكن بعيدًا عن الرمزيّة والعواطف وحسابات العدالة، لم يكن هذا المشهد ما يهم فعلًا، في فترة ما قبل ظهر اليوم الإثنين. في خلاصة الأمر، طوى هذا النهار صفحة سلامة، ليصبح ابتداءً من اليوم مجرّد مدّعى عليه يجهد شركاؤه السياسيون لحمايته، لا أكثر ولا أقل. المشهد الذي يهم فعلًا، كان في الطابق السابع من المصرف المركزي، في القاعة التي خرج فيها نائب الحاكم الأوّل ليعلن –للمرّة الأولى- مستقبل السياسة النقديّة التي سيعتمدها المصرف. ابتداءً من الآن، سيكون عنوان السياسة النقديّة نوّاب حاكم مصرف لبنان، بعدما أصرّ النائب الأوّل للحاكم على إشراكهم معه اليوم في الصورة ومضمون الحديث والقرار.. والمسؤوليّة.
تحديات أمام سياسة تعويم سعر الصرف
في الشكل، يمكن القول أن نوّاب الحاكم قدّموا في المؤتمر الصحافي اليوم المعالم الأساسيّة التي ستحكم السياسة النقديّة الجديدة لمصرف لبنان، والتي تختلف من دون شك عن السياسة التي انتهجها رياض سلامة منذ بدء الأزمة.
العنوان الأساسي الذي تم رفعه، هو تعويم وتوحيد وتحرير سعر صرف، ما يفرض كما أشار منصوري الحد من تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع. وهذا يفرض بدوره التخلّي تدريجيًا عن منصّة صيرفة، التي لا تعبّر بالفعل عن أي سعر صرف عائم يخضع لقوانين العرض والطلب. كما يفرض ذلك في الوقت نفسه، إطلاق منصّة جديدة، من النوع الذي عمل على تسويقه نائب الحاكم الثالث سليم شاهين خلال الأسابيع الماضية.
التحدّي الأساسي أمام هذه الخطوة، سيكون الحصول على تعاون الحكومة ووزارة الماليّة في ما يخص هذا المسار، خصوصًا أن مسألة سعر الصرف ترتبط بشكل وثيق بالأسس التي يتم على أساسها تحضير الموازنة واستيفاء الرسوم الضريبيّة من السوق. كما يرتبط سعر صرف الدولار بحجم الاعتمادات التي يفترض أن تؤمّنها الحكومة لعمل الإدارات الرسميّة، التي يعتمد حجم الإنفاق على كلفة الدولار النقدي في السوق الموازية.
لكل هذه الأسباب، سيحدد نجاح هذه السياسة النقديّة قدرة نوّاب الحاكم، وخصوصًا النائب الأوّل، على تحدّي الضغوط السياسيّة، التي يمكن أن تدفع بالاتجاه المعاكس تمامًا. فكما هو معلوم، اتخذ المصرف المركزي في مراحلة عديدة سابقة قرارات قضت بضخ الدولار في السوق من خلال منصّة صيرفة، من دون أي اعتبار لكلفة هذه السياسة النقديّة، بناءً على ضغوط سياسيّة مارستها رئاسة مجلس النوّاب ورئاسة الحكومة على حاكم مصرف لبنان، وهو ما يمكن أن يتكرّر في مراحل لاحقة. ربما لهذا السبب اختار منصوري أن يحصّن نفسه بنوّاب الحاكم الثلاثة الآخرين، الذين يملكون هامشًا أكبر من الاستقلاليّة تجاه ضغوط من هذا النوع.
التحدّي الثاني الذي سيطرح نفسه، يرتبط بمدى قدرة المصرف المركزي على لجم أو ضبط سعر الصرف خلال المرحلة الانتقاليّة، التي ستلي التخلّص التدريجي من منصّة صيرفة. وهنا، سيكون على المجلس المركزي المفاضلة ما بين دورين يفرضهما على المصرف المركزي، قانون النقد والتسليف: الدور المرتبط بالحفاظ على سلامة النظام المالي، ما يفرض الحرص على ما تبقى من احتياطات.. والدور المرتبط بالحفاظ على قيمة النقد الوطني، الذي يفرض تلقائيًا التدخّل في سوق القطع، وتحمّل كلفة معيّنة لمنع المضاربات والحفاظ على استقرار سعر الصرف.
التشريعات التي يطلبها نوّاب الحاكم
الجزء الآخر من السياسة التي أعلنها اليوم منصوري، تقوم على التوقّف عن تمويل الحكومة، إلا وفقًا لتغطية تشريعيّة يقرّها المجلس النيابي، وبسقف مالي واضح ولمدّة زمنيّة محددة. وفي الوقت نفسه، ولتأمين هذا التمويل، اشترط منصوري أن يتم –خلال ستّة أشهر من اليوم- إقرار أربعة قوانين إصلاحيّة طلبها صندوق النقد الدولي، وهي: قانون الكابيتال كونترول، وموازنة العام 2023، بالإضافة إلى قانوني إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإستعادة انتظام القطاع المالي. وكما هو معلوم، سيفرض إقرار هذه القوانين الاتفاق على معادلات توزيع الخسائر، حسب الخطّة الحكوميّة التي تم إقرارها بالتوافق مع صندوق النقد الدولي، والتي تم على أساسها توقيع الاتفاق على مستوى الموظفين مع الصندوق.
التحدّي الأوّل في ما يخص هذا الشرط يرتبط بإمكانيّة تأمين النصاب لهذه الجلسات، خصوصًا تلك تنطوي على تشريعات غير شعبيّة على الإطلاق، مثل الكابيتال كونترول والإنفاق من الاحتياطات وإعادة الانتظام إلى القطاع المالي. فكما هو معلوم، تعترض كتل المعارضة بشكل جذري على مبدأ التشريع في ظل الفراغ الرئاسي، في حين أنّ التيار الوطني الحر احتفظ بحق الاستنسابيّة في الموافقة على حضور الجلسات، وفقًا لمعيار “الضرورة” كما يقدّرها النائب جبران باسيل.
ولهذا السبب بالتحديد، سيكون النائب جبران باسيل بيضة القبّان التي ستحدد إمكانيّة تأمين النصاب لهذه الجلسات، ما سيعني تسليم باسيل القدرة على مقايضة النصاب ببعض المطالب السياسيّة الأخرى، كما يفعل في العادة. وسيساعد باسيل على ممارسة هذا الضغط حساسيّة بعض التشريعات المطروحة، والتي يسهل “حرقها” إعلاميًا، في حال قررت كتلة لبنان القوي الامتناع عن حضور الجلسات وعرقلة إقرار القوانين.
التحدّي الثاني، سيتمثّل في القدرة على تأمين الإجماع السياسي على مضمون بعض هذه التشريعات، وخصوصًا تلك التي ستحدد تراتبيّة توزيع خسائر القطاع المصرفي، والتي تستلزم الإلتزام بالمعايير والمعادلات المتفق عليها مع صندوق النقد. وبعض هذه التشريعات كما هو معروف، تتعارض بشكل صارخ مع مصالح كبار النافذين في القطاع المصرفي، الذين يملكون السطوة على معظم الكتل النيابيّة، وهو ما عرقل المضي بأي خطّة تعافٍ مالي منذ العام 2020. فهل سيملك نوّاب الحاكم بأيديهم مفاتيح تمرير هذه القوانين اليوم، بمواجهة اللوبي المصرفي الطويل اليد داخل المجلس النيابي؟
في خلاصة الأمر، ستُحدد هذه الأسئلة مجتمعة قدرة نوّاب الحاكم على تنفيذ ما يعدون به، بعدما تجاوزوا اليوم ترددهم، ووافق النائب الأوّل على تحمّل مسؤوليّاته المنصوص عنها في قانون النقد والتسليف، في ظل شغور منصب الحاكميّة، بدل اللجوء إلى خيار الاستقالة كما لوّحوا جميعًا في مراحل سابقة. وبعد النجاح في هذا الامتحان الآن، سيكون أمام نوّاب الحاكم امتحان تحدّي الأهواء والضغوط السياسيّة والشعبويّة، والحفاظ –في الوقت نفسه- على سياسة متوازنة لا تتخلّى عن دور المصرف المركزي، في ما يخص الحفاظ على قيمة الليرة، بالتوازي مع أولويّة الحفاظ على الاحتياطات. هذا المسار، لن يحتاج إلى نظافة الكف والجرأة والاستقلاليّة فقط، بل سيحتاج أيضًا إلى إخضاع القرارات لسياسة نقديّة علميّة مدرسة بعناية، بعيدًا عن الشعبويّات والشعارات الإعلاميّة.