للمرة الثالثة على التوالي، تطلق وزارة الاتصالات مزايدة علنية لتلزيم قطاع الخدمات البريدية لشركة خاصة، لعلّها تتمكن بذلك من وضع حدّ لاستباحة شركة ليبان بوست لإيرادات القطاع وخدماته، منذ نحو 25 عاماً. وليس توصيف إدارة ليبان بوست لقطاع البريد بـ”الاستباحة” مبالغ فيه، نظراً لما شاب مسيرة الشركة في مجال البريد من شوائب على مدار السنوات الماضية، وتجاوزات ومخالفات رصدتها تقارير رسمية منها تقرير ديوان المحاسبة الصادر عام 2021.
محاولتان فاشلتان
منذ العام 1998 وشركة ليبان بوست تحتكر خدمة البريد في لبنان من خلال تجديد عقود وتمديد مهامها حيناً، وبحكم الأمر الواقع أحياناً. محاولتان قامت بهما وزارة الاتصالات مؤخراً لتلزيم شركة جديدة بشروط تحفظ حق الدولة من القطاع، أخفقتا.
المحاولة الأولى تمت في شهر شباط الفائت، ولم تتقدم أي شركة إلى المزايدة التي أُعلن عنها حينها. والمزايدة الثانية رست في شهر آذار الفائت على ائتلاف شركتي ميريت انفست وColis Privé France المملوكتين من مجموعة CMA-CGM الفرنسية، قبل أن تسقط المزايدة من جديد في هيئة الشراء العام، بعد خضوعها للتدقيق والتوصل إلى أن العقد غير مطابق لدفتر الشروط ولا يحقق التوازن المالي.
وبناء على ذلك تم التمديد لمهام ليبان بوست حتى نهاية أيار 2023 أي حتى يوم أمس. وبدءاً من اليوم 1 حزيران تنطلق رحلة مزايدة جديدة لتلزيم الخدمات البريدية على أمل إبرام عقد مع شركة جديدة بشروط أكثر جدوى، ووضع حد بالتالي لمسيرة ليبان بوست على حساب مرفق عام لم يحقّق أرباحاً تذكر منذ نحو 25 عاماً.
مزايدة جديدة
أعلنت وزارة الاتصالات-المديرية العامة للبريد، اليوم، رغبتها في إطلاق مزايدة تلزيم الخدمات البريدية، بناء على دفتر شروط مُعلن عبر المنصة الالكترونية لهيئة الشراء العام، على أن يتم التقدّم من قبل الشركات الراغبة بالمشاركة بالمزايدة اعتباراً من 7 حزيران 2023 ولغاية 12 تموز2023.
وإلى ذلك الحين، تستمر شركة ليبان بوست بتسيير قطاع البريد لغاية تاريخ تسلم شركة أخرى. وتفيد مصادر وزارة الاتصالات بأن المزايدة الجديدة تعتمد دفتر شروط معدّلاً بعناصر من شأنها تعزيز ربحية الدولة وحفظ حقها من إيرادات القطاع. خصوصاً أن ليبان بوست حققت الأرباح الطائلة على مدار سنوات، وحرمت الدولة من الإيرادات بفعل عقود مجحفة بحق الخزينة العامة.
نهاية مسيرة “ليبان بوست”!
لا يمكن الجزم بانتهاء مسيرة شركة ليبان بوست قبل انتهاء مسار المزايدة وإبرام عقد مع شركة جديدة، بشروط أفضل من سابقاتها، فالشركة التي يؤمل كف يدها عن قطاع البريد احتكرت خدمات البريد على مدار السنوات الماضية، وألزمت إدارات الدولة على منحها حصرية نقل معاملاتها وبريدها وتسلّمها وتوزيعها، وتقديم التصاريح الضريبية، وإجازات العمل، والأوراق الشخصية وسجلات العدل، ورسوم الجامعة اللبنانية والإفادات العقارية، والتصاريح المالية، وفواتير الهاتف الثابت والخلوي، وميكانيك السيارات، وتسجيل السيارات، وتحصيل مخالفات قانون السير.. بالإضافة إلى عشرات الخدمات الأخرى. ولم تحصّل الدولة اللبنانية من كل تلك الايرادات الناجمة عن احتكار الخدمات من قبل ليبان بوست سوى الفُتات الذي لا تتجاوز قيمته 5 في المئة من الأرباح الصافية.
ولا بد من التذكير ببعض الأرقام الواردة في تقارير رسمية والتي تؤكد استغلال شركة ليبان بوست لقطاع البريد ووضع يدها على أرباح الدولة. فالشركة لم تحقق منذ توليها إدارة قطاع البريد عام 1998 إيرادات للدولة اللبنانية بأكثر من 1.5 مليار ليرة فقط، في حين حققت الدولة ايرادات من قطاع البريد في عام واحد فقط يسبق ليبان بوست عام 1997 نحو 7.8 مليار ليرة أي قرابة 6 أضعاف ما حققته ليبان بوست على مدار سنوات.
ولم تكن ليبان بوست لتستبيح المال العام وحق الدولة في استثمار مرفقها العام، لو لم يكن أصحاب الشركة هم أنفسهم المؤتمنين على حماية المال العام. فرئيس حكومة تصريف الأعمال حالياً نجيب ميقاتي تملّك شركة ليبان بوست على مدار نحو 20 عاماً، شغل خلالها العديد من المناصب الرسمية، فكان المستثمر والمُراقب في الوقت عينه، حامي المال العام ومختلسه عبر عقود الشركة المملوكة منه. واستمر الحال حتى العام 2019 حين نقل ميقاتي ملكية ليبان بوست إلى مجموعة سرادار التي يتشارك معها في ملكية بنك سرادار.
ولم تقتصر عملية التواطؤ على المال العام على ميقاتي فحسب، إذ لم تحرّك الحكومات المتعاقبة ووزراء الاتصالات ساكناً على مدار السنوات الماضية حيال استغلال شركة ليبان بوست قطاع البريد واستنزافه. فتمديد عقد ليبان بوست مرّ عبر وزراء الاتصالات بطرس حرب ومحمد شقير مروراً بحكومتي حسان دياب ونجيب ميقاتي، من دون أن يُسمع أي اعتراض من أي فريق سياسي.