في أواخر شهر أيار 2024، ستعقد مجموعة العمل المالي الدولية FATF، اجتماعاً لإعادة النظر في شأن تصنيف لبنان، لمحاربة تبييض الأموال، بعد فترة السماح التي أُعطيت له لسنة واحدة.
نذكّر بأنّ هذه المجموعة الرقابية الدولية كادت ان تُدرج لبنان على القائمة الرمادية منذ سنة تقريباً، لكن بعد الأخذ في الإعتبار الأوضاع الكارثية والأزمة المالية والنقدية التي يعانيها لبنان، مَنحت الدولة سنة واحدة لتنفيذ الإصلاحات الضرورية لمكافحة تبييض وتهريب الأموال ومحاربة كل الأعمال المالية المشبوهة.
ها نحن قد وصلنا إلى هذه السنة الإستحقاقية، لكن لسوء الحظ تراجعنا أشواطاً من حيث كنّا، فإقتصاد الكاش قد تفاقم، والكتلة النقدية بالعملات الصعبة ازدادت جرّاء السوق السوداء، ونَمت أيضاً عمليات تبييض الأموال والتهريب، وكسبت الأرض السوق الموازية غير المعلنة وغير المراقبة.
كما أنّ لبنان، الذي كان يجذب المستثمرين والرياديين والمبتكرين، ها هو يجذب المبيّضين والمهرّبين والمروّجين أكثر فأكثر، أما المصرف المركزي فقد تأخر جداً لتشجيع استعمال البطاقات المصرفية منذ أسابيع عدة، أما السوق فيعمل 95% على الكاش غير المراقب، وغير المعروف مصادره. فكل التعاميم الصادرة مؤخراً لا تمثّل أكثر من ضربة سيف في الماء أمام الفساد المستشري، والنية المتعمّدة لمتابعة هذه الإستراتيجية المدمّرة والخطرة لبلدنا.
بعد خمس سنوات من هذا التدمير الذاتي، أصبحنا مقتنعين بأنّ هناك نية حقيقية لعدم تنفيذ أي إصلاح أو أي خطة لإعادة الهيكلة، التي كانت موعودة منذ مؤتمر «سيدر» ومن ثم الإتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي، وحتى الوعود والإلتزامات مع مجموعة العمل المالي FATF.
وإذا لا سمح الله، أُدرج لبنان على القائمة الرمادية، فستكون الخطوة الأولى تهريب ما تبقّى من المصارف المراسلة، ووقف تعاملها مع المصارف اللبنانية، وهذا يعني فصل لبنان نهائياً عن الدورة المالية والنقدية الدولية. وحتى لو بقيت بعض المصارف تعمل مع لبنان، فسيكون من الصعب التحويل من لبنان وإليه، حتى لأعمال تجارية. فكل عملية تحويل مهما كان مبلغها، ستخضع لتدقيق خارجي مفصّل، ومراقبة دقيقة بالمجهر، مع تكاليف إضافية ووقت طويل للتنفيذ.
فهناك مخاطر على الفريش كاش، المختبئ في البيوت، لأن أي تحويل لأيّ سنت سيتطلّب براهين وإثباتات دقيقة لمصادر الأموال، حتى لو كانت التحاويل لدفع أقساط مدرسية وجامعية وإستثمارات عقارية وغيرها. فهذه المراقبة الدقيقة ستعقّد الحركة التجارية، وتُخيف المستثمرين الشفّافين.
أما المخاوف الكبيرة فتكمن في أن إدراج لبنان على القائمة الرمادية سيكون المحطة الأخيرة قبل إدراجه على القائمة السوداء، وإذا ما حصل ذلك، فهذا يعني فصل لبنان نهائياً عن الدورة الإقتصادية الدولية وإعلانه رسمياً بلد المافيات.
في المحصّلة، نتمنّى ألاّ يُدرج لبنان على هذه القوائم الخطرة، لأنه سيكون لها تداعيات كارثية على ما تبقّى من الاقتصاد الأبيض والمستثمرين الذين لا يزالون يثقون ببلدهم، فقد أصبح لبنان مقسوماً إلى قسمين: القسم الضئيل يُثابر لإعادة الإنماء والتطوّر في ظل بيئة صعبة للغاية، أما القسم الأكبر فيعمل لإطاحة ما تبقّى من الثقة والإقتصاد الأبيض الشفّاف لتكملة حلقات السرقة والفساد والتبييض والتهريب والترويج. فنحن على مفترق طرق خطرة، إمّا يرجع لبنان إلى الطريق الصحيح، وإمّا يُفصل نهائياً عن السياق الدولي.