قبل أيام، أصدر وزير الأشغال العامة والنقل علي حمية تعميماً قضى بإزالة كلّ لوحات الإعلانات الموضوعة على الأملاك العامة التابعة للوزارة خلافاً للأصول، وبإعادة تنظيم عملية ترخيصها. التعميم محاولة لضبط الفوضى المستشرية في هذا القطاع، إلا أنها ليست الأولى. فخلال أكثر من عقدين باءت كل المحاولات بالفشل، ولا سيما أن نفوذ الشركات وارتباطاتها مع «الدولة العميقة» والبلديات متشعّبة ومتينة، ما يضع تعميم الوزير أمام تحدٍّ جدّي.
ورد في التعميم أنه «تبين للوزارة أن كلّ الإعلانات الموضوعة على الأملاك الخاصة بوزارة الأشغال العامة والنقل مخالفة لأحكام المرسوم 1302/2015 (الذي ينظم قطاع اللوحات الإعلانية)». وشدّد على «أصحاب اللوحات غير الحائزة على موافقة وزارة الأشغال العامة والنقل وغير المرخّصة من البلدية، المبادرة فوراً إلى إزالتها على نفقتهم ومسؤوليتهم». أما اللوحات المرخّصة من البلدية وغير الحائزة على موافقة وزارة الأشغال فيُعطى أصحابها «مهلة شهرين لتقديم طلب إلى الوزارة ودرسه وإبداء الموافقة من عدمها على إشغال المساحة المطلوبة».
ما ورد في التعميم سبق أن تضمّنه المرسوم السابق لتنظيم قطاع اللوحات الإعلانية الرقم 8861 الصادر عام 1996، والذي حدّد في المادة 15 أنه «على أصحاب الإعلانات الذين تكون إعلاناتهم غير قابلة للتسوية… نزعها خلال مهلة شهر من تاريخ إبلاغهم بذلك وإلا فإنها تُنزع على نفقتهم ومسؤوليتهم». مات هذا المرسوم واستُبدل عام 2015 بمرسوم جديد رقمه 1302 وتضمّن أن «توجّه الإدارة المعنية إلى أصحاب اللوحات المخالفة كتباً بوجوب إزالة المخالفة في مهلة 10 أيام تحت طائلة إزالة الإدارة المخالفة على مسؤوليتهم ونفقتهم». لكنّ شيئاً لم يحصل أيضاً.
شركات الإعلانات واجهت تعميم الوزير بالتشكيك. «لا الوزير ولا أحد من الوزارة تواصل معنا. لا نفهم أبعاد القرار وخلفياته. هل الهدف إلهاء الناس بقضايا جديدة عوض الأمور الحياتية الضاغطة؟. فساعة موضوع المثليين وساعة الإعلانات»، بحسب رئيس نقابة أصحاب وكالات الدعاية والإعلان جورج جبور.
في المقابل، يعتبر حمية أن «الناس اعتادوا مخالفة القوانين، وأي محاولة لتطبيقها تواجه دائماً بالشكوك. قراري متخذ منذ ما قبل الانتخابات النيابية لكنني فضلت التريث في إصدار التعميم كي لا أُتهم بالتأثير على الحملات الانتخابية. وفي ظل حكومة تصريف الأعمال أصبح هنالك وقت أكبر لتنظيم عمل الوزارة، ولذلك قمت بمراجعة المراسيم التي لم تُطبق وتبين لي أن المرسوم 1302 لم يُنفذ. هذا حجم الموضوع».
ينفي حمية وجود أي نوايا مبيّتة، «فلو كان هذا الادّعاء صحيحاً هل كنا منحنا الشركات مهلة شهرين لتسوية الأوضاع؟ المرسوم في الأساس لا يمنح أي مهلة ويطلب إزالة المخالفات فوراً. هدفي ليس إزالة اللوحات بقدر ما هو تنظيم القطاع والحفاظ على السلامة العامة. هل يعلم المواطنون على سبيل المثال أنه يجب أن يكون لكل لوح إعلانات عقد تأمين؟ في كل مرة يقع لوح لا يعوض على المتضررين. ماذا لو وقعت لوحة في ملك وزارة الأشغال؟ من سيتحمل المسؤولية. الوزارة؟».
في الظاهر قد تبدو مشكلة اللوحات الإعلانية مسألة تقنية تعالج بالالتزام بالمعايير الفنية التي يحددها المرسوم 1302. إلا أن المعطيات على أرض الواقع أكثر تعقيداً. فعلى مدار عقود استفاد أصحاب الشركات من علاقاتهم مع النافذين في السلطة والأحزاب ورؤساء البلديات لزرع اللوحات الإعلانية من دون حسيب ولا رقيب، استناداً إلى حصص وسمسرات وعمولات. حتى إن بعض المناطق كانت ولا تزال حكراً على عدد من الشركات المرتبطة بقوى الأمر الواقع والأحزاب النافذة فيها.
هذه حقائق لا ينكرها جبور، إنما يشير إلى أن «كل شركات الإعلام والإعلانات حصلت على تراخيص وامتيازات وحقوق من خلال الدعم السياسي الذي وفّره الجميع دون استثناء. ومن يخرقون القانون يخرقونه تحت غطاء محميات سياسية». لذا، يستغرب أصحاب شركات الإعلانات رمي مسؤولية المشكلة على الدولة والبلديات، «فعلى أي أساس كانت البلديات تمنح التراخيص إذا كانت مخالفة للقانون؟ هل ستجري محاسبة رؤساء البلديات وكل المتواطئين وفتح الملف على مصراعيه؟، يتساءل أحد أصحاب شركات الإعلانات، داعياً الوزير إلى «معالجة المشكلة مع البلديات. فإذا منح أحد أصحاب اللوحات الإعلانية ترخيصاً لوضع لوحة في ملك وزارة الأشغال، وعادت البلدية ومنحت شركة أخرى ترخيصاً في المكان نفسه بشكل لا يراعي شروط المسافة المحددة في المرسوم، من يكون مسؤولاً في هذه الحالة؟».
يرفض حمية هذه الذرائع، إذ إن «المرسوم في المادة 7 منه يشير بوضوح إلى أنه في حال كانت الأرض ملكاً لإدارة عامة يتوجب على صاحب اللوحة الإعلانية أن يرفق بالملف موافقة الإدارة العامة المعنيّة». ويؤكد تصميمه على السير في خطوته حتى النهاية، إذ إن «نحو 80% من اللوحات الإعلانية على أملاك وزارة الأشغال غير قانونية. وفي حال عدم الالتزام سألجأ إلى القضاء. علماً بأن الوزارة لا تستفيد بأي قرش من هذا التعميم. العائدات تعود للبلديات. وقد تواصلت مع وزير الداخلية الذي أبدى تجاوباً تاماً وأبلغني بأنه سيعمم على البلديات ضرورة الالتزام بالتعميم وتطبيق القانون».
وإلى العوائق السياسية، تبرز أيضاً عوائق عمليّة ومادية لتطبيق التعميم. فعدد اللوحات الإعلانية هائل، «وقد بلغ عام 2019 قبل بداية الأزمة نحو 16 ألف وجه (اللوحة قد تكون بوجه أو وجهين). ولا نملك أرقاماً دقيقة عن نسبة اللوحات القانونية وغير القانونية» وفقاً لجبور. فيما يلفت أحد أصحاب الشركات إلى أن «إزالة اللوحات المخالفة عملية مكلفة للغاية. إزالة كل لوحة يكلف ما لا يقل عن 1500 دولار فريش. الونش وحده يكلف 400 إلى 500 دولار، إضافة إلى أجرة العمال وكلفة إيجار مستودع لوضع الحديد. بالتالي فإن المهلة الزمنية قصيرة والمسار يتطلب أكثر من شهرين».
ويؤكد رئيس نقابة أصحاب وكالات الدعاية والإعلان أن «تنفيذ التعميم سيضرب القطاع الذي تراجعت أعماله من 50 مليون دولار عام 2018، إلى مليون دولار حالياً إذا استثنينا نفقات الحملات الانتخابية التي أنعشته قليلاً». علماً بأنه «لا مصلحة للبلديات في تطبيق التعميم. فإضافة إلى الارتباطات السياسية، تحقق صناديقها عوائد ضخمة من اللوحات الإعلانية «لا تقلّ نسبتها عن 15% إلى 20%» بحسب مصادر الشركات.