سارع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في اليوم التالي لانفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 للقدوم الى لبنان، للوقوف الى جانب اللبنانيين على أنقاض الأضرار التي تسبّب بها ثالث أكبر إنفجار في العالم مدمّراّ الحجر والبشر في اجزاء من العاصمة بيروت وصولاً الى ضواحيها. ونظراً الى هول الكارثة قدّمت فرنسا بعض أنواع الدعم لعدد من القطاعات في لبنان ومبلغ 100 مليون يورو الذي خصصته نقداً بُعيد الانفجار الكارثي. وها هي اليوم تتابع مسارها، إذ تعتزم في 13 آذار المقبل إعلان مخطّط أعدّته بجهود شركتي هندسة فرنسيتين يتمتعان بخبرة واسعة في مجال البنى التحتية المرفئية وهما Artelia وEgis ومؤسسة كهرباء فرنسا EDF، بتمويل فرنسي للمساهمة في صياغة إستراتيجية لإعادة إعمار المرفأ بالتعاون مع السلطات المرفئية اللبنانية، مع مقاربة واقعية وبراغماتية أي عملية تلبّي مواصفات المرافئ العالمية، قابلة للتنفيذ ومن شأنها أن تمكن مرفأ بيروت من إحراز تقدم ملموس في أدائه.
وبذلك تقدّم فرنسا للرأي العام مَعلَمين أساسيين من معالم التعاون اللبناني – الفرنسي في ما يخص المرفأ: من جهة أولى الإقتراحات المتعلقة بتنظيم الـ»port»، بالإضافة إلى المستندات التقنية التي تتيح إطلاق مناقصات بشأن الأشغال ذات الأولوية في مجال البنية التحتية. من جهة ثانية، المبادئ التوجيهية لتقييم أمن المرفأ، بما في ذلك التدابير الملموسة الرامية إلى ضمان متطلبات الأمن في مرفأ بيروت بهدف إستيفاء المعايير الدولية.
بانتظار 13 آذار
هذا الأمر كشفه الملحق الاقتصادي في السفارة الفرنسية في لبنان والمنطقة فرانسوا سبورير خلال لقائه مع إعلاميين في السفارة الفرنسية شاركت فيه «نداء الوطن»، لوضعهم على بيّنة من بعض مما سيتم كشفه خلال حفل الإعلان الذي سيكون في مرفأ بيروت في 13 آذار في حضور السفير الفرنسي ووزير الأشغال العامة علي حمية، رئيس ومدير عام اللجنة الموقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت عمر عيتاني، حيث ستعرض الشركتان مخطّط إعادة إعمار المرفأ المقترح الذي حظي بموافقة وزارة الأشغال وإدارة المرفأ بعد عمل تعاوني بين الخبراء الفرنسيين وإدارة المرفأ. علماً أن المخطّط انجز بناءً على طلب وزير الأشغال وإدارة المرفأ، وتمخّض عن الإقتراحات التي تمّ التقدّم بها الى الوزارة بعد أخذ تعليمات إدارة المرفأ عن المساحة التي يمكن إعادة إعمارها.
كلفة الأشغال وتمويلها
أكلاف الأشغال الإجمالية، إستناداً الى المخطّط، بحسب سبورير تتراوح بين 50 و100 مليون دولار، وتشمل كلفة إعادة بناء الأرصفة والطرقات ومنها الرصيف رقم 9 الذي تضرّر من الإنفجار ولا بد من إعادة بنائه، وتحسين الحركة في المرفأ بفضل خطة جديدة خاصة بالحركة واعتماد التقسيم الأمثل للقطاعات، والطاقة الشمسية لتغذية المرفأ بها إستناداً إلى توصيات مؤسسة كهرباء فرنسا (EDF)، مما يتيح تحقيق وفر مالي لا يستهان به، باعتبار أن المرفأ يحتاج الى طاقة كهربائية بسعة تتراوح بين 14 و15 ميغاواط.
أما عن تمويل الأشغال فأكّد سبورير أن «فرنسا مستعدة لذلك ولكن ليس قبل توقيع لبنان اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي. وهذا الأمر ينطبق أيضاً على البنك الدولي الذي أبدى استعداده لتمويل اعمال إعادة المرفأ».
وفي تلك الحالة وبما أن التوافق مع صندوق النقد بعيد المنال، يمكن للحكومة اللبنانية، كما رأى رداً على سؤال «نداء الوطن»، «تمويل المشروع من خلال الإيرادات التي يحصّلها المرفأ والتي تعود نسبة 80% منها الى الدولة. وبذلك يمكن تخصيص مثلاً نسبة 40% من الواردات (رسوم جمركية وضريبة على القيمة المضافة…) لموازنة المرفأ لتغطية اشغال إعادة البناء بدلاً من 20%، وهي النسبة التي يتمّ اقتطاعها حالياً، فتصبح بذلك النسبة المتبقية والتي تعود الى خزينة الدولة 60%».
وإذ أكّد الملحق الإقتصادي في السفارة الفرنسية على أن «السير بهذا المخطط مسألة لبنانية بحت، قال إن «التمويل المحلّي مرتبط بوضع إطار قانوني تنظيمي شفّاف، للمساعدة على جذب المشغّلين في القطاع الخاص وتلزيم شركات لإنجاز الأشغال».
لا بد من شركات دولية
ورداً على قدرة الشركات المحلية على تمويل إعادة بناء كل المرفأ، قال: «أستبعد هذا الأمر بل يحتاج الى شركات أجنبية». وأوضح أن «هناك نوعين من الشركات التي يمكن أن تكون مهتمة بتمويل المرفأ: المستوردون وتُلقى على عاتقهم أعباء ضريبية كبيرة، والمصدرون وعددهم محدود. ورأى أنه يوجد في لبنان 2 أو 3 شركات تصدير كبيرة يمكنها المساهمة في تولّي بعض الأشغال ولكن ستكون الكلفة كبيرة عليها. ولكن قد تكون هناك شركة قادرة مثل شركة CMA-CMG (الفرنسية) التي قد تبادر الى المساهمة مثلاً باعتبارها تعمل في لبنان. وقد تكون هناك شركات أخرى يمكنها أن تساهم في مشروع آخر، ولكن ليس بتمويل كامل لكل أعمال تأهيل المرفأ. فالفرصة الوحيدة أمام لبنان للتمويل تكمن من واردات المرفأ والتي ستتأمن طوال فترة القيام بالأشغال التي قد تستغرق مثلاً 4 سنوات لبناء رصيف… أما في ما يتعلّق بتهديم مبنى أهراءات القمح، فقال: «لم يتطرّق المخطط الى تلك النقطة ولم يذكر ما اذا كان يجدر ان يبقى مشيّداً أم لا، لأن هذا شأن لبنان داخلي».
وهنا نشير الى ان تلك الرقعة المتعلقة بمبنى الأهراءات كانت أثارت ردود فعل من أهالي الضحايا الذين احتجّوا على تهديمه لأن من شأن ذلك محو آثار الجريمة ومعها الضحايا الـ218 الذين سقطوا في الإنفجار.
تأمين الأمن والثقة
تبقى مسألة تأمين أمن المرفأ معضلة أساسية لتوفير السلامة العامة في المرفأ الذي هو، بنظر البعض، تحت سيطرة «حزب الله» حالياً. في هذا السياق اعتبر أن «توفير الأمن في المرفأ هو شأن الدولة اللبنانية، وفي الشكل الذي يدار فيه المرفأ حالياً لا يمكن توفير المقاييس العالمية في أداء عمل الـ»port».
وشدّد على أهميّة ضبط أمن المرفأ، ليصبح ضمن المواصفات المعمول بها في سائر المرافئ العالمية ما يسهّل التعامل مع البواخر التي تبحر من لبنان وتصبح مصدر ثقة في عمليات الكشف عليها. في الوقت الراهن المعايير المتبعة في المرفأ هي دون المقاييس العالمية كما بيّنت الدراسات الفرنسية. وتطبيق المواصفات من شأنه أن يسهّل التعامل والتدقيق في الحاويات والبواخر التي تبحر من لبنان. واذا لم يقم لبنان بمجهود لتوفير الأمن والأمان، هناك شركات بحرية قد لا تبحر الى بيروت وترسو في مرفئها ما عدا بواخر البضائع المستوردة.
المحاور المتّبعة
وكانت استمرت فرنسا إستناداً الى سبورير في تقديم دعم مؤسساتي طويل الأمد لمرفأ بيروت عدّده كما يلي:
– تواصل وكالة الخبرات الفرنسية (Expertise France) تعبئة الخبراء الفنيين من أجل مساعدة المرفأ على تحديث حوكمته وسلامته وأمنه.
– تدعم فرنسا إدارة الجمارك اللبنانية في إطار إعادة تنظيمها وتحديثها، من خلال الخبرات الطويلة الأمد.
– يلتزم مرفأ مارسيليا التزاماً كاملاً دعم مرفأ بيروت، وقد كرس ذلك رسمياً في إتفاق تعاون تم إبرامه في شهر حزيران من العام 2022
في هذه الأثناء، فازت شركة CMA-CGM الفرنسية بتلزيم محطة الحاويات في مرفأ بيروت فرصدت استثمارات كي يحظى مرفأ بيروت بمحطة حاويات فعالة ودينامية بقيمة تفوق الـ30 مليون دولار، فقامت بتشغيل محطة الحاويات منذ العام 2022، وكنتيجة لذلك، عادت حركة الحاويات تزداد مجدداً.
الى ذلك عدّد الخطوات التي قامت بها فرنسا ولا تزال في المرفأ وهو من أولوياتها باعتباره مرفقاً حيوياً، وهو بنية تحتية أساسية بالنسبة الى الإقتصاد اللبناني لأنه مصدر مهم لدخل الدولة. فقال: «تمّ نشر الجيش الفرنسي في آب للمساعدة على ضمان أمن المرفأ وفرز الجزء الأساسي من الخردة، وموّلت فرنسا إعادة تدوير الاجزاء المتناثرة وقيمتها وكيفية التصرّف بها، وزوّدت المرفأ بآلة «سكانر» الوحيدة التي لا تزال في الخدمة.
ماذا عن الخطوات اللاحقة التي ستتبع الإعلان عن المخطّط؟ رداً على هذا التساؤل يقول الملحق الإقتصادي في السفارة الفرنسية أن «بلاده مستعدة لمواصلة تعاونها وتأمين خبرات طويلة الأمد بهدف دعم تنفيذ خطة تعافي المرفأ، فضلاً عن بعض المواضيع المحددة (مثل التحول الرقمي). تتطلب هذه المرحلة التالية تقدماً حول عدد من المتطلبات المسبقة. أولاً، يجب تنظيف المرفأ من الركام لكي تصبح هذه المساحة آمنة وقابلة لإعادة التأهيل. ثانياً، ينبغي تأمين المبالغ اللازمة للقيام بهذه الأشغال. ثالثاً، يجب توضيح الإطار القانوني والتنظيمي بغية تحديث عمل المرفأ وجذب الشركات الخاصة.
من كل ما ذكر وفي خضمّ الأجواء السلبية المخيّمة والتي تترافق مع حرب غزّة وارتفاع منسوب وقوع حرب شاملة على لبنان، يعكس الملحق التجاري الفرنسي النظرة الإيجابية التي تقوم على وقوف فرنسا الدائم الى جانب لبنان. منوّهاً بأهمية السوق اللبنانية بالنسبة الى فرنسا، فهو مصدر جذب للشركات الفرنسية التي يبلغ عددها اليوم في لبنان نحو 50 شركة، ساعية الى تطوير أدائها تجارياً من خلال لبنان في المنطقة ككل، لافتاً الى ان عشرات الشركات الفرنسية نمت في لبنان خلال الأزمة.