مرضى السرطان يعانون بصمت ولا دواء حتى إشعار آخر

بين آلام مرضى السرطان الجسدية وجلجلة تأمين العلاجات اللازمة، يستفحل الداء بصمت فاتكاً بأجساد عددها أكثر من أن يُحصى ومتحكماً بأرواح ينهشها اليأس من تأمين وسائل الاستشفاء. نحن نعيش في بلد «تسرطنت» فيه ضمائر كثيرة حتى استحال «الموت مع وقف التنفيذ» نتيجة شبه حتمية للعديد من المرضى. فأيهما أصعب على المريض: الوقع الفيزيولوجي للمرض أم الوقوف بلا حول ولا قوّة أمام عدم توفّر العلاج؟

«بطلوع الروح»لم تستطع ريتا (اسم مستعار) أن تحبس دموعها. فوالدها نعمة في حياتها ووجوده بالقرب منها يعني لها الكثير. والد ريتا مصاب بمرض السرطان في الرأس كما في الرئتين، وقد صُنّف مرضه في المرحلة الرابعة، وهي طبياً مرحلة متقدّمة لا تهاون فيها مع رحلة العلاج. «كنت أقضي الليل أصلّي كي يُشفى والدي. أما اليوم، فأنا أصلّي كي أتمكن من تأمين دوائه المفقود».

معاناة سمر (اسم مستعار) في جوهرها لا تختلف عن معاناة والد ريتا. هي التي خاضت مساراً عسيراً في مواجهة سرطان الكبد الذي انتشر في مناطق أخرى من جسدها، كانت على وشك أن تتماثل للشفاء، إلى أن استجدّت أزمة الدواء ولم يعد علاجها متوفراً أو مؤمناً. فرحتها لم تكتمل. فقد كان يلزمها بضع جلسات إضافية من العلاج الإشعاعي كي تنتصر في نهاية المطاف، لكن الأزمة الراهنة جاءت لتقضي على جلّ آمالها.

التكاليف اليومية التي تتكبدها إضافة إلى العلاج الدوري داخل المستشفى يكلّفها «المبلغ المرقوم». فهي تحتاج إلى عشر علب من الشاش المعقّم يومياً، يصل سعر العلبة الواحدة منه إلى 120 ألف ليرة بعد أن كان لا يتخطى الـ6 آلاف ليرة فقط منذ مدّة ليست بطويلة. أما الضمادات التي تستخدمها بانتظام لمداواة ما يلفظه جرحها المفتوح، وهي تحتاج إلى أكثر من ثلاث علب يومياً منه، فقد ارتفع سعر العلبة الواحدة من 120 ألف ليرة إلى مليونين وأربعمائة ألف ليرة. ثم هناك صورة الرنين المغناطيسي التي يجب أن تخضع لها باستمرار وقد وصلت تكلفتها إلى 12 مليون ليرة في حين تبلغ كلفة التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني (PET SCAN) 24 مليون ليرة. كيف تؤمنين هذه المبالغ الخيالية لإكمال رحلة العلاج، سألناها. «أعتمد على إيماني وثقتي بالله من جهة، ومن جهة أخرى فقد أنعم علي الرب بفاعلي خير كثر، يتقاسمون التكاليف في ما بينهم، إضافة إلى مبادرات شخصية من المحبين والأصدقاء». لكن خوف سمر اليوم لم يعد يقتصر على تأمين تكاليف العلاج وإنما على العلاج نفسه. فهي كانت على وشك أن تتماثل للشفاء و»فجأة قيل لي أن العلاج لم يعد متوفراً في المستشفى.

في محاولة للاستفسار عن دور الجمعيات في الحدّ من أزمة معاناة المرضى وذويهم – والمثالان أعلاه مجرّد غيض من فيض – تواصلنا مع د. رولا فرح، مؤسسة ورئيسة جمعية CHANCE (Children Against Cancer)، والاختصاصية في أمراض الدم والأورام لدى الأطفال. فرح أوضحت أن انقطاع أدوية مرضى السرطان هو بمثابة كارثة حقيقية لأنه يُعتبر الأساس في علاج أي طفل أو إنسان مصاب. وأشارت إلى أنها لم تشهد أزمة مماثلة طوال مسيرة عشرين سنة قامت خلالها الجمعية بمعالجة أكثر من 800 طفل مصاب بالسرطان ومتابعة أكثر من 15 ألف حالة مرضية

المشكلة الرئيسية اليوم، بحسب فرح، هي في إلقاء المستشفيات المسؤولية بكاملها على كاهل المريض. فهي تصف الدواء وتقول له «دبّر راسك»، في حين أن الحصول على أدوية أمراض السرطان أصبح من المهمات شبه المستحيلة مع اشتداد الأزمتين الصحية والاقتصادية.

الطبيب الاختصاصي في أمراض الدم والأورام البروفيسور فادي نصر، الذي لفت إلى أن مشكلة القطاع الطبي اليوم هي إدارية بامتياز، إذ لا دواء، لا مستشفيات ولا فحوصات. فنتيجة مباشرة للأزمة، نزل أطباء ومرضى السرطان في آب الماضي إلى الشارع. وعلى الرغم من الوعود التي تلقّوها لناحية تأمين الأدوية كمرحلة أولى حتى نهاية العام 2022، إلا أن تأخّر مصرف لبنان عن توقيع الموافقات المسبقة للشركات المستوردة حال دون تنفيذ تلك الوعود.

«المعضلة تكمن في انقطاع بعض أدوية الأمراض السرطانية وارتفاع أسعار البعض الآخر، وتعذر شرائها من الخارج نظراً لتجميد حسابات اللبنانيين»، بحسب نصر. «حتى الميسور في لبنان أصبح فقيراً لا يمكنه شراء دوائه لأن أمواله محجوزة أسوة بالمودعين الصغار». أما بالنسبة إلى دور الجمعيات والمبادرات الفردية، وصف نصر الإمكانيات بالمحدودة خاصة في ظل الضغوطات المرمية على كاهل المغترب اللبناني، إذ لا يمكن تحميله ما يفوق طاقته «وهو بالكاد يمد أهله والمقربين منه بالدواء والمساعدات المالية». هذا من دون أن ننسى أن كلفة العلاج ارتفعت بواقع 30 ضعفاً نظراً إلى تدهور قيمة الليرة، ما جعل عدداً كبيراً من المرضى يقفون مكتوفي الأيدي.

مصدرنداء الوطن - كارين عبد النور
المادة السابقةالسنترالات تتهاوى: “جهنّم… العنكبوتية”!
المقالة القادمةنقابات وقطاعات: فليسمع صندوق النقد صرختنا