يتضمن برنامج الإصلاح الحكومي هيركات على الودائع بقيمة تفوق 60 مليار دولار، وخصخصة من خلال ما يسمى «صندوق التعافي» الذي سيتضمن أصولاً للدولة غير محدّدة، ومنه سيتم تعويض خسائر المودعين… شطب خسائر بقيمة 83.2 مليار دولار، يتضمن أيضاً تحرير سعر صرف الليرة ليبلغ 3 آلاف في نهاية 2024، أي أنه سيأكل 50% من المداخيل، ويتضمن أيضاً احتمال اللجوء إلى صندوق النقد الدولي لاستجداء برنامج منه وسيبقى لبنان عالقاً في النهاية بدين بالعملة الأجنبية لا تقل قيمته عن 17 مليار دولار، وسيواصل البحث عن طريقة لتمويل فوائده بالعملة الأجنبية… لبنان لم يتعلم «دقّ بيانو»
صُمّم برنامج الإصلاح الحكومي ليكون «متماشياً مع متطلبات صندوق النقد الدولي». هذا ما أقرّ به أمس رئيس الحكومة حسّان دياب في دردشة مع الصحافيين المدعوّين لمناقشة برنامج الإصلاح مع مستشاره جورج شلهوب والمدير العام لوزارة المال ألان بيفاني. قد يحاكي هذا الطرح براغماتية ما، لإبقاء خيارات لبنان مفتوحة، إلا أن كلامه يحسم ما قيل حول تكليف المستشار المالي «لازارد» التواصل مع صندوق النقد الدولي حول بنود البرنامج. وهذا بدوره يثير الآتي: إذا أعطى الصندوق موافقته على برنامج الإصلاح، فما هي البنود التي تتماشى مع متطلباته؟ وإذا طلب لبنان الانخراط في برنامج مع الصندوق، فهل سيكون هناك المزيد من الشروط؟ وكيف تفادى البرنامج الإشارة الواضحة إلى البنود «المتماشية»؟
ما تقدّم ليس الأمر الوحيد «المستتر» في الخطة. فالخصخصة هي أحد الشروط الأساسية للصندوق، إلا أن البرنامج لا يذكر هذه الكلمة أبداً، بل يشير إلى الشراكة مع القطاع الخاص، أو تحرير الاتصالات، أو يترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لتبنّي الخصخصة في أي وقت عبر «صندوق التعافي».
كذلك، لا يذكر البرنامج كلمة «هيركات» أو «قصّ الودائع» بل يستبدلها بعبارة «مساهمة المودعين التي سيتم تحديدها لاحقاً» رغم أن «لازارد» اقترح هيركات بنسب تصل إلى 173% على الودائع فوق المليون دولار، ولم يعترض أحد على هذا الاقتراح. والأنكى من ذلك كلّه، أن إعادة الهيكلة لن تمحو ديون لبنان، حتى لو انخرط في برنامج مع صندوق النقد الدولي، وحرّر أموال سيدر، وقصّ أموال المودعين، وباع أملاك الدولة، وحرّر سعر صرف الليرة، وضرب مداخيل الأجراء… فمع كل ذلك، سيبقى هناك ما لا يقلّ عن 17 مليار دولار دين خارجي على لبنان. سنبيع كل ما نملك، ونرهن أنفسنا لقروض صندوق النقد التي ستأتي مشروطة وبالقطارة، وسنبحث سنوياً عن دولارات لندفع فوائد الديون للخارج بدلاً من تمويل استيراد المواد الأوليّة للصناعة واستيراد أجهزة ومعدات زراعية متطوّرة.
«صندوق التعافي» أم الخصخصة؟
في الصيغ السابقة للمشروع، وردت كلمة «الخصخصة» أو عبارة «صندوق توضع فيه أصول الدولة»، إلا أنها عُدّلت في الصيغة الأخيرة، لتصبح «صندوق التعافي». في الصفحة العشرين من الصيغة الأخيرة، وتحت عنوان «كيف يمكن تعويض المودعين؟» أشار البرنامج إلى الآتي: هناك خيار آخر بدلاً من تحميل المودعين خسارة صريحة. أن يتم تحويل الفئة المستهدفة من الودائع التي ستستعمل من أجل عملية الإنقاذ (شطبها مقابل قيمة الخسائر المحقّقة في المصارف وإعطاء المودعين أسهماً في المصارف مقابل هذه العملية) إلى صندوق التعافي». وتحدّد هذه الفقرة أيَّ ودائع ستصيب والخيارات التي ستعطى لأصحاب الودائع المتوسطة والكبيرة «لكن هذه العملية ستعيد التوازن مباشرة إلى ميزانيات المصارف. المودعون المختارون لهذا الصندوق سيعرض عليهم التعويض على المدى الطويل والحصول على عوائد سنوية ضمن حدّ معين. أما الصندوق فسيتم تمويله من استرداد الأموال المنهوبة، وأصول أخرى للدولة محتملة». عن أيّ أصول للدولة يشار هنا؟ إنها الفكرة نفسها التي تضمّنت سابقاً وضع أصول الدولة المنتجة في صندوق مثل الاتصالات والميدل إيست والكازينو وسواها، واستخدام عائداتها لتسديد جزء من الخسائر أو الديون اللاحقة.
قبل يوم واحد، كانت هذه الفقرة تنصّ على الآتي: «كبار المودعين سيخضعون لعملية هيركات جزئية على أساس إيرادات الفوائد، والمودعون الوسط وقسم من كبار المودعين سيتم تحويلهم إلى صندوق التعافي».
ما هو هذا الصندوق، وأيّ أصول للدولة ستوضع فيه؟ يمكن الربط بين هذا الصندوق، وبين ما ورد عن «تعهد الحكومة بتحرير قطاع الاتصالات أمام القطاع الخاص، وعمليات التشركة في قطاع الكهرباء (آخرها ما تحدث عنه رئيس الحكومة أمس عن إمكان إنشاء معملَي كهرباء في الشمال والجنوب بقدرة 900 ميغاوات لكل واحد بطريقة BOT)… وهذه أمور كلها واردة في برنامج الإصلاح.
«هيركات» أو «مساهمة المودعين»؟
اللافت ليس ما يتعلق بالخصخصة فقط، بل بما يتعلق بالهيركات. فلماذا قرّر معدّو البرنامج في الصيغة المسرّبة منه تعديل كلمة «هيركات» إلى «مساهمة المودعين». عن أيّ مساهمة؟ هل هي طوعية أم إجبارية؟ أصلاً كلمة «Bail In» لا توحي بأن الأمر طوعي، بل هو أمر إجباري نظراً إلى كون الخسائر محقّقة والبحث عن طريقة شطبها مقابل شطب ودائع.
في الواقع، اقترحت لازارد، أن تكون نسبة الهيركات 54% على ثلاث شرائح من الودائع: 79% على الودائع التي تفوق 100 ألف دولار، 130% على الودائع التي تفوق 500 ألف دولار، و173% على الودائع التي تفوق مليون دولار. برأيهم، أن هذه هي الطريقة التي تغطّي الخسائر الكبيرة البالغة 83 مليار دولار والتي ستتحقق من خلال «هيركات» على سندات اليوروبوندز بنسبة 75% من أجل خفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي إلى 70%.
إذاً، ما الفرق بين مساهمة المودعين «التي ستحدّد لاحقاً»، كما ورد في البرنامج، وبين «الهيركات» الذي ذُكر صراحة في صيغ سابقة وبتفاصيل مملّة في بعضها. اللافت أن تبرير المساهمة الخاصة من المودعين لإنقاذ المصارف جاء من خلال كلام منسوب إلى رئيس الحكومة حول حماية 90% من المودعين. في الواقع، لم يقل أبداً رئيس الحكومة حماية 90% من الودائع. هناك فرق كبير بين الاثنين.
«صندوق التعافي» هو الموضة السائدة لمفهوم الخصخصة الذي اشتهر في الفترة الأخيرة باعتباره «الشراكة مع القطاع الخاص»
إذاً، من أصل خسائر بقيمة 83.2 مليار دولار، ستدفع المصارف كلفة تقتصر على 20.7 مليار دولار هي رساميلها ولن تقدّم أي رساميل جديدة، بل سيتم تدفيع المودعين كامل أموالهم وقد يجبرون على استقدام دولارات إضافية من الخارج من أجل المشاركة في هذه العملية التي ستكون عبارة عن عائد طويل الأمد لا يضمن استرداد رأس المال. لماذا سنعفي المصارف من إعادة بعض من الأرباح المحققة والمحوّلة إلى الخارج؟ طبعاً، هناك الكثير من المودعين الذين استفادوا من المال العام مثلهم مثل المصارف، لكن هناك الكثير من المودعين الذين تفوق ودائعهم 100 ألف دولار وهي عبارة عن تعويضات تقاعد أو مدّخرات حجزتها المصارف لتصبح رهينة «الهيركات» المقنّع المشار إليه.
نقاش في ملكية المصارف
على أي حال، إن الحديث عن «ميزات» مساهمة المودعين الإجبارية في رساميل المصارف، تأخذنا نحو نقاش من نوع آخر متداول اليوم بكثرة بين المصرفيين وسواهم. فمن أصل خسارة بقيمة 83.2 مليار دولار، ستتكبد المصارف رساميلها كاملة بقيمة 20.7 مليار دولار، لكن استقدام الدولارات الطازجة اللازمة لنهوض الاقتصاد سيكون على عاتق كبار المودعين الذين سيتحوّلون إلى مساهمين إجباريين في رساميل المصارف، وربما سيحصلون على عوائد من «صندوق التعافي».
مساهمات المصرفيين الحاليين ستذوب إلى «لا شيء تقريباً»، ثم ستصبح مساهمات كبار المودعين هي ذات الثقل الأكبر والوزن المرجح في ملكية مصرف واتخاذ القرارات فيه. ستكون هناك تغييرات جوهرية في بنية الملكية المصرفية في لبنان. العائلات التقليدية التي تسيطر على هذا القطاع لن ترغب بذلك أبداً. لكنها في المقابل، ترفض أن تستقدم أي دولار إضافي من الخارج فوق الرساميل الحالية.
الدين بالدولار مستمرّ!
ولأنه لا يمكن الحصول من المودعين على كامل المبالغ التي تتطلبها تغطية الخسائر، فإن هناك ديناً سيبقى على عاتق الدولة اللبنانية. ليس المهم حجم الدين الذي ستحمله الدولة اللبنانية بالليرة اللبنانية نظراً إلى قدرتها على تصفية هذا الدين بسهولة وخلق ليرات إضافية لتغطية أي خسائر يمكن أن تنجم عنه. لكن المسألة الأساسية والحيوية تتعلق بالدين بالدولار، ولا سيما المحمول من أطراف خارجية أو يمكن أن يباع لأطراف خارجية. عملياً، بعد حسم قيمة الـ«هيركات» على سندات اليوروبوندز بنسبة 75%، ستبقى هناك 8 مليارات دولار، يضاف إليها 2 مليار دولار هي ديون ثنائية وثلاثية خدمتها تبلغ 257 مليون دولار، وهناك فوائد على قيمة الدين بعد حصول الدولة على فترة سماح لفترة خمس سنوات لا يمكن أن تقلّ قيمتها الإجمالية عن 7 مليارات دولار… في المجمل، سيكون علينا تأمين 17 مليار دولار لتسديد الديون الخارجية. هل هذا هو الهدف من كل هذه العملية؟ أن تبقى هناك ديون على لبنان بالعملة الأجنبية ونواصل البحث عن طرق لاستقدام الدولارات عبر هندسات مالية جديدة يبتدعها رياض سلامة أو غيره؟ إذا كان الاستثمار الداخلي في مشاريع البنى التحتية يعتمد على التمويل الخارجي، وإذا كان الحلّ الداخلي يتطلب مزيداً من التمويل الخارجي، وإذا كان الاستيراد يعتمد على التمويل الخارجي، فأين هو الحلّ؟ وإذا كنّا نعدّ العدّة للتفاوض مع صندوق النقد الدولي، فلماذا لا نلجأ مباشرة إلى صندوق النقد الدولي بدلاً من أخذ موافقة الحكومة على برنامج يمكن ألا يوافق عليه الصندوق أو يطلب تعديله لاحقاً؟ هل يجب أن نكون رهائن للصندوق وأن نذهب إليه راكعين؟
من أجل عيون الـ IMF
لم يعد ضرورياً إثبات مشاركة صندوق النقد الدولي في إعداد برنامج الإصلاح الحكومي، لكن من المفيد التذكير بما ورد في هذه الخطة تهويلاً ودفعاً نحو أحضان صندوق النقد الدولي: «من الصعب تصوّر أن لبنان ممكن أن يخرج من هذه الأزمة من دون دعم المجتمع الخارجي على نطاق واسع، ومن غير الحقيقي التفكير بأن هروب الودائع بهذه الوتيرة سينعكس، وأن الأسواق الدولية ستُفتح أمام لبنان ولا سيما بعد أزمة كورونا، من دون الالتزام الكبير الواسع للتفاهم على خطّة التعافي المصنوعة من خبراء عالميين. من الضروري كسر هذه الحلقة المفرغة من خلال إعلان دعم مالي خارجي كبير (…) نتوقع دعماً خارجياً من مؤسسات مختلفة. المستثمرون والمراقبون يذكّرون الحكومة بأن صندوق النقد الدولي بشكل خاص أنشئ من أجل مساعدة الأعضاء خلال أزمات ميزان المدفوعات، ويتوقعون من لبنان أن يطلب الصندوق من أجل مواجهة الأزمة الحالية كما فعلت العديد من الدول (…) نعتقد أن هذه الخطة تشكل أساساً جيداً للتفاوض مع صندوق النقد الدولي. انعكاسات وجود برنامج لصندوق النقد ستكون إيجابية. المستثمرون (حاملو السندات اليوروبوندز) سيكونون أكثر قبولاً لخفض قيمة ديونهم إذا تبين لهم وجود قيمة مضافة للتعافي. إن أي خطة بلا الصندوق لن يمكنها مواجهة كل الاختلالات الموروثة».
استرداد الأموال المنهوبة
بعض النقاش المتصل بالهيركات كان يتمحور حول استرداد الأموال المنهوبة التي ستوضع في «صندوق التعافي». فقد تبيّن للجنة والمستشار المالي أن هناك آلاف الحسابات العائدة لموظفين في القطاع العام فيها أكثر من 3 ملايين دولار وما يصل إلى 7 ملايين دولار، وأنه يمكن استرجاع قسم كبير من هذه الأموال من خلال عملية «هيركات» لوضعها في صندوق تطفئ فيه خسائر المصارف. قد تصل قيمة الأموال التي يمكن استردادها من هذه الحسابات إلى ملياري دولار. طبعاً، هذا الأمر لا يتضمن النظر أبداً في حسابات السياسيين أو ذوي صلة القربى بهم. سيتم التضحية بقسم من الفاسدين الصغار، لتغطية هروب كبار الفاسدين.
نصف المداخيل «طارت»
أحد شروط صندوق النقد الأساسية، إضافة إلى الخصخصة، هي تحرير سعر صرف الليرة. في الواقع إن «برنامج الإصلاح الحكومي» أفرد ثلاث صفحات لسعر صرف الليرة والحديث عن تحريره إلى 2600 ليرة في عام 2021، ومواصلة هذا المسار ليصبح سعر الدولار في لبنان 3000 ليرة في 2024. ألن يكون لهذا الأمر انعكاسات واسعة على مداخيل اللبنانيين؟ هل يجب القبول بهذا الخيار الذي يمحو 50% من مداخيل اللبنانيين باعتراف الخطة نفسها؟