مع ظهور كلّ مشروع قانون أو مسودة قانون أو حتّى الحديث عن إعداد قانون يتعلّق بعملية الإصلاح المالي، تبدأ معركة تقاذف المسؤوليات والاعتراضات والتهديدات واللوم. ويتكرّر سيناريو إسقاط القوانين مع دخول العام الخامس على اندلاع الأزمة، من دون التوصّل الى تشريع أبسط الإصلاحات المطلوبة بذرائع مختلفة ظاهرياً لكنها متطابقة المصالح ضمنياً.
منذ معركة الكابيتال كونترول مروراً بإسقاط خطة حكومة حسان دياب للإصلاح المالي في مجلس النواب، وصولاً الى إعادة هيكلة المصارف حالياً، المشهد على صعيد السلطات التنفيذية والتشريعية والمصرفية هو نفسه. علماً ان المشهد الاقتصادي والمالي والاجتماعي يتدهور ويسوء شهراً تلو الآخر، ولو أنّ صورة الاستقرار في سعر الصرف والتأقلم مع بعض تداعيات الأزمة قد تطغى بعض الأحيان وتوحي للبعض بزعم التفاؤل على غرار ما صرّح به وزير المالية يوسف خليل أمس بأن الاستقرار المالي والنقدي مؤمّن!!
تصدّر العناوين
يتصدّر العناوين حالياً مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف أو ما سُمّي بإصلاح المصارف وإعادة تنظيمها. ويحتلّ المرتبة الأولى في لائحة الموضوعات الشائكة بين الحكومة ومجلس النواب والمصرفيين والمودعين… علماً أن مصيره متوقّع على غرار القوانين الإصلاحية الأخرى التي سبقته مع الأخذ في الاعتبار أن انعقاد جلسات تشريعية أمر مشكوك في حصوله في الفترة الحالية.
إلا أن مشروع القانون استفزّ جمعية المصارف قبل حتّى مناقشته أو إقراره في مجلس الوزراء، حيث سارعت باسم رئيسها سليم صفير الى توجيه كتاب لرئيس الحكومة تعترض فيه على تحميلها ضمن المشروع مسؤولية الأزمة المالية النظامية، وتعترض على الحدّ من استعمال الأموال العامة في عملية إصلاح المصارف، وعلى اقتراح تأليف هيئة خاصة لتقييم وضع المصارف وتحديد مصيرها، وعلى مهل إعادة الرسملة والتمويل، وعلى حجز أموال أعضاء مجالس إداراتها وكبار المساهمين(…) إلا إذا ثبت خطؤهم علماً أن القوانين المرعية الإجراء الحالية تقوم بهذا الإجراء الروتيني لدى التحقيق في أي ملف أو قضية الى حين صدور أحكام مبرمة بها.
في المقابل، يشير كتاب جمعية المصارف الى أن سياسة الدولة ومصرف لبنان هي التي تتحمّل مسؤولية الأزمة. فهي التي ثبّتت سعر الصرف وهي التي موّلت القطاع العام وألزمت البنوك قبض توظيفاتها في القطاع الخاص على الـ1500 ليرة، فضلاً عن مسؤوليتها عن سياسة دعم السلع التي دفعت كلفتها من احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية.
لكنّ المصارف لم تعترض يوماً على سياسة تثبيت سعر الصرف ولا على سياسة تمويل القطاع العام. لا بل أمعنت في الاكتتاب بسندات الخزينة، وفي توظيف أموال المودعين في الديون السيادية الخطرة رغم علمها بعدم سلامة تلك التوظيفات. كما انها لم تعترض جوهرياً على التعميم 568 منذ صدوره في 2020 والذي فرض على المصارف قبول تسديد العملاء الأقساط أو الدفعات المستحقة بالعملات الأجنبية الناتجة عن قروض التجزئة كافة بالليرة اللبنانية على سعر الصرف الرسمي عند 1500 ليرة، لا بل وسّعته وطوّرته ليشمل القروض التجارية وغيرها من التسهيلات التي لم يشملها التعميم، وذلك من أجل مصالح معينة.
تعديل التراتبية
وبالتالي فإن هدف الكتاب والاعتراض اليوم على قانون إصلاح المصارف هو حماية أصحاب المصارف ورؤساء وأعضاء مجالس إداراتها والمديرين التنفيذيين بذريعة حماية النظام المصرفي والمودعين، وفق رئيس لجنة الدفاع عن حقوق المودعين في نقابة المحامين كريم ضاهر الذي أوضح لـ»نداء الوطن» أن توحيد سعر الصرف سيظهر أوّلاً الخسائر الفادحة في ميزانيات المصارف، ما سيجبر المساهمين في المصارف على تحمّل نتيجتها (إعادة الرسملة وتمويل استمرارية المصرف من أموالهم الخاصة) أو التصفية، «وهو خيار مرّ في الحالتين». مشيراً الى أن هدف جميعة المصارف هو تعديل تراتبية تحميل المسؤوليات وجعل الدولة الأولى بذلك.
بين مشروعين
وأوضح ضاهر أن مشروع القانون الحالي الذي جاء تحت عنوان «إصلاح المصارف وإعادة تنظيمها» يختلف عن مشروع القانون السابق لإعادة هيكلة المصارف في بنود عدّة منها:
– يحلّ المشروع محلّ كافة القوانين التي تعيد هيكلة المصارف وتعالج وضع المتعثرة منها.
فجاءت الصيغة الجديدة من القانون الحالي لتفرز فصلاً جديداً خاصاً سمّي «الأحكام الاستثنائية»، وهو ما أثار قلق فئة معيّنة من أصحاب المصارف. حيث ستطبق تلك الأحكام بعد تقييم الوضع الحالي للمصارف من قبل الهيئة الخاصة التي ستصنّف المصارف وفق 3 فئات. وستقرّر الهيئة وفقاً لتقرير لجنة الرقابة على المصارف، أن الفئة الأولى تضمّ المصارف التي لن تخضع للأحكام الاستثنائية لأن وضعها سليم ولا تحتاج الى إصلاح أو تصفية (وهو ما يطبق على المصارف الأجنبية)، الفئة الثانية تشمل المصارف التي ستقرّر الهيئة أنها تحتاج الى إعادة إصلاح، والفئة الثالثة التي تحتاج الى تصفية لأنها لا تملك إمكانية إعادة الإصلاح.
خلاف بين فئتين
وأشار ضاهر في هذا السياق الى أن فئة معيّنة من المصارف على يقين بأنها لن تستطيع إعادة رسملة مصارفها وأنها مضطرة للتصفية، وبالتالي الحجز على أصول وممتلكات رؤسائها وأعضاء مجالس إداراتها.
لهذا السبب هناك خلاف ضمن جمعية المصارف حالياً بين فئتين من البنوك: الأولى مستعدّة للتضحية والإصلاح وإعادة الرسملة والسير بالخطة الحكومية ومحاولة استعادة الثقة، في حين أن الفئة الثانية تعي أنها فقدت ثقة مساهميها وبالتالي لا يمكنها إعادة الرسملة إلا من خلال أموال رؤسائها الخاصة، وهو الأمر غير الوارد بالنسبة لهم ويفضلون مواجهة القانون، لأن التصفية تعني رفع السرية المصرفية وحجز الأموال والكشف عن التجاوزات.
ملاحظات أخرى
– أزالت النسخة الجديدة من القانون المادة 47 من مشروع القانون القديم التي تلزم المصارف إعادة الأموال التي تم تحويلها بعد 17 تشرين 2019 بالكامل والأموال التي تم تحويلها قبل 17 تشرين الأول التي تفوق 500 ألف دولار.
– لا تعرّض النسخة الجديدة من القانون أصحاب المصارف الى خطة الحجز على أموالهم خلال عملية الإصلاح.
– حمّل مشروع القانون السابق أصحاب المصارف مسؤولية جزائية فقط في حال ترتّبها عليهم. أما المشروع الجديد، فيحمّل مسؤولية جزائية ومدنية في حال ثبوتها، «وهو أمر سهل التثبيت لأن معظمهم تصرّف بطريقة غير مسؤولة في ما يتعلّق بالتوظيفات والهندسات المالية وغيرها.
تحميل المسؤولية
وفي ما يتعلّق بموضوع «المهل القصيرة لإعادة تمويل المصارف تحت طائلة التصفية» الذي تطرّق إليه كتاب جمعية المصارف، لفت ضاهر الى أن الإشارة الى المهل يعني ضمنياً سعي المصارف لتحميل الدول المسؤولية المباشرة من أصولها عن الفجوة المالية من دون رمي العبء على المصارف وكبار المودعين. ما سيجعل، في حال حصوله، ميزانيات المصارف سليمة حيث ستتخطى قيمة الحقوق والأصول، مطلوبات المصارف المستحقة.
اما حول اعتراض المصارف (فئة منها) على وضعها ضمن مشروع القانون تحت إشراف هيئة خاصة وحجز أموال رؤساء وأعضاء مجالس إداراتها، فقال ضاهر إن هذا الاعتراض هو محاولة للتهرّب من كافة المسؤوليات.
ولفت ضاهر الى آخر بند في كتاب رئيس جميعة المصارف الذي يذكر انه لا يجوز إعفاء كل المشاركين في القرارات المقررة لمصير المصارف، من أية مسؤولية عن أخطائهم (…)، معتبراً انها بمثابة همز وتهديد مفاده «إن سقطنا سقطتم!»
وختم سائلاً: لماذا لم تسعَ المصارف الى اقتراح مشروع قانون لإعادة هيكلتها منذ 4 سنوات إن كانت فعلاً حريصة على القطاع المصرفي وأموال المودعين بدلاً من مواصلة العمل على تذويب الودائع؟