منذ مدّة، تصاعد الحديث في العديد من الأوساط الماليّة، بل وداخل مصرف لبنان أيضًا، عن الآفاق المحتملة لمنح رخص مصرفيّة جديدة. من إيجابيّات الفكرة التي تم الحديث عنها مثلًا، العودة لاستقطاب التحويلات للنظام المالي اللبناني، ما قد يساعد لاحقًا في مرحلة تعويم وتوحيد سعر صرف الليرة. بالإضافة إلى خلق نظام مالي قادر على منح الائتمان للقطاعات الاقتصاديّة، بل وحتّى الاستحواذ على بعض المصارف القديمة في مرحلة إعادة هيكلتها. مع تقليم أظافر لوبي المصارف القديمة، وانتزاع احتكار هذه المصارف للنظام المالي كما نعرفه اليوم (راجع المدن).
تفاعل الموضوع المستجد
لكن خلال الأسبوعين الماضيين، بدأ الحديث عن المصارف “الجديدة” يتخذ طابعًا أكثر جديّة، وصولًا لمناقشة الفكرة داخل لجنة الاقتصاد النيابيّة. وكما هو معلوم، لم يكن الحديث عن هذه الفكرة ليصل إلى هذه المرحلة المتقدمة في المجلس، لولا أنّ مصرف لبنان يملك بالفعل عدداً من طلبات التراخيص المصرفيّة، التي بات يدرسها بشكل حذر.
الحديث عن الفكرة جاء هذه المرّة من زاوية البحث في تأسيس مصارف “رقميّة” أو “إلكترونيّة”، ما ربط الموضوع بنوع آخر من المخاطر. وفي الوقت نفسه، كان من الواضح أنّ المقترح لم يشمل أي آليّات جديدة ومختلفة للحوكمة والرقابة، ما يربط الموضوع مجددًا بالهواجس المرتبطة بطريقة فتح وتشغيل هذه المصارف، وإمكانيّة سقوطها في فخ الخسائر نفسه الذي أطاح بالمصارف القديمة.
فكرة المصارف الإلكترونيّة
ربما لجأ مصرف لبنان إلى تحوير فكرة “المصارف الجديدة”، وتحويلها إلى فكرة “مصارف إلكترونيّة جديدة”، للتخفيف من حذر المصارف التقليديّة من الفكرة.
فالمصارف الإلكترونيّة لا تقدّم خدمات التسليف أو الصيرفة بالتجزئة أو السحب والإيداع، وهو ما يقلّص من قدرتها على الحلول مكان النظام المصرفي القديم، ما كان سيمثّل كابوسًا للمصارف القديمة. وفي الوقت نفسه، تعطي فكرة المصارف الإلكترونيّة مبرّرًا لفصل المصارف الجديدة ونظامها، عن نظام الدفع المرتبط بالمصارف القديمة. وهو ما يقلّص من خشية الرأي العام من هذه الفكرة.
في هذه الحالة، ستقتصر خدمات المصارف الرقميّة أو الإلكترونيّة الجديدة على عمليّات التقاص والتحويل الداخلي والخارجي، وتسديد ثمن السلع والخدمات عبر الإنترنت، أو تقديم البطاقات المسبقة الدفع.
وإذا أراد مصرف لبنان تطوير الفكرة أكثر، فربّما ستكون المصارف الإلكترونيّة قادرة على منح الائتمان (التسليف)، إنما من زاوية البطاقات الائتمانيّة المؤجّلة الدفع فقط، لا أكثر. إذ من غير المألوف أن يمارس مصرف إلكتروني خدمات منح القروض السكنيّة أو الشخصيّة أو قروض السيّارات، أو حتّى استقبال العملاء ودراسة ملفاتهم وأخذ تواقيعهم على سندات دين.
لكن تمامًا كالمصارف التجاريّة أو الاستثماريّة أو الإسلاميّة، ستحتاج المصارف الإلكترونيّة إلى تشريعات وتعاميم تطبيقيّة خاصّة، تحدّد نسب الملاءة المطلوبة منها، وحجم رأسمالها التأسيسي. وهذا ما يفسّر اهتمام لجنة الاقتصاد النيابيّة بمناقشة الفكرة في مراحلها الأولى.
مخاطر تفوق الإيجابيّات
الانتقال إلى البحث في فكرة المصارف الإلكترونيّة، يجرّد مقترح المصارف الجديدة من جميع إيجابيّاته. فالمصارف الإلكترونيّة لن تتمكّن من تقديم الخدمات الأكثر نفعًا للقطاعات الاقتصاديّة، أي فتح الاعتمادات المستنديّة وتقديم التسليفات التجاريّة. كما لن تتمكّن لاحقًا من استخدام رساميلها في عمليّات الاستحواذ والدمج، في إطار عمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي. وأخيرًا، لن تنجح هذه المصارف الجديدة في تخفيف القوّة التفاوضيّة التي تملكها المصارف القديمة حاليًا، في وجه الدولة والمجتمع، لكون المصارف الإلكترونيّة لا تملك قدرة كسر هيمنة المصارف القديمة على الساحة الماليّة.
في المقابل، تطول لائحة المحاذير والمخاطر. فالمصارف الإلكترونيّة ستكتفي بتلقي الدولارات الفريش (بعد إيداعها وتحويلها من المصارف التجاريّة القائمة)، قبل استخدام هذه الدولارات عبر الإنترنت أو البطاقات والتحويلات. وهكذا، لن تمثّل هذه المصارف نظامًا ماليًا متكاملًا وجديدًا، يستطيع الحد من مخاطر تبييض الأموال، كما هو الحال في أي نظام مصرفي متكامل. بل وعلى العكس تمامًا، ستمثّل فكرة المصارف الإلكترونيّة امتدادًا لفكرة الحسابات الفريش في المصارف القديمة، التي يقتصر دورها على تلقّي الدولارات النقديّة وصرفها أو تحويلها. أو العكس، أي تلقّي التحويلات ومن ثم سحبها.
وهذا ما سيجعل المصارف الإلكترونيّة الجديدة بيئة خصبة لتبييض الأموال، بالتكامل مع الاقتصاد النقدي المهيمن على لبنان اليوم، وبالتكامل أيضًا مع حسابات الفريش دولار في المصارف التقليديّة، التي سيتم استعمالها كوسيط لحساب المصارف الجديدة الإلكترونيّة. وارتفاع مخاطر تبييض الأموال، سيزيد مجددًا من مخاطر العزلة الماليّة التي تواجه لبنان، بفعل حذر المصارف المراسلة الدوليّة من التعامل معه.
في الوقت نفسه، لا يبدو من جميع النقاشات الدائرة أن ثمّة معايير واضحة لمنح التراخيص الجديدة، على أساس هويّة المؤسسين وإمكاناتهم وحجم السيولة المتوفّرة، وهو ما يفتح الباب أمام الاستنسابيّة المعهودة في منح التراخيص المصرفيّة، تمامًا كما كان يحدث في القطاع المصرفي قبل بدء الأزمة الراهنة. وفي الوقت الراهن، ثمة من يخشى لجوء النخبة المصرفيّة القديمة نفسها إلى فتح شركات أجنبيّة، للدخول من خلالها مجددًا كمساهمين في المصارف الإلكترونيّة الجديدة، ما سيفتح المجال لتكرار النموذج الاحتيالي ذاته، الذي أدى إلى تبديد أموال المودعين في المصارف القديمة.
في خلاصة الأمر، ثمّة ما يكفي من أسباب للحذر من فكرة المصارف الإلكترونيّة، التي يجري طرحها اليوم. وثمّة ما يدفع أكثر للخشية من الطريقة التي يتم فيها مناقشة الموضوع، داخل الغرف المغلقة، ومن دون التدقيق في الآليّات التي ستحكم منح هذه الرخص. أمّا الأهم، فهو أن جميع هذه النقاشات الملتبسة لم تقدّم إجابات واضحة، لجهة الدور الذي ستقوم به هذه المصارف الإلكترونيّة.