بعد أن توقّف الانخفاض السريع في احتياطات مصرف لبنان لنحو شهر، عادت ميزانيّة المصرف لتظهر انخفاضات قياسيّة في النصف الثاني من شهر آب، وهو ما أدّى إلى تدنّي مستوى احتياطات العملة الأجنبيّة المتبقية إلى نحو 9.7 مليار دولار أميركي في نهاية الشهر الماضي. وبذلك، يكون مستوى الاحتياطات قد تدنّى إلى ما دون عتبة عشرة مليارات للمرّة الأولى منذ بداية الأزمة، ما يشير بوضوح إلى الوضعيّة الحرجة التي بلغتها ميزانيّة مصرف لبنان. مع الإشارة إلى أنّ الميزانيّة تُظهر أن المركزي بدد من احتياطاته نحو 396 مليون دولار خلال النصف الثاني من آب، وهو ما أدّى إلى بلوغ الاحتياطات هذا المستوى المنخفض والحسّاس.
بيانات منصّة صيرفة
البيانات اليوميّة لمنصّة صيرفة أظهرت أنّ حجم التداول على المنصّة لم يتجاوز حدود 127 مليون دولار على مدى أيّام الأسبوع الماضي، فيما أتى الجزء الأكبر منها كما هو معروف من دولارات شركات تحويل الأموال. وهذه المسألة بحد ذاتها تطرح السؤال عن سر التناقص السريع في احتياطات المركزي، في الوقت التي يقنّن فيه مصرف لبنان حجم الدولارات التي يقوم بضخها عبر المنصّة، بل وفي الوقت الذي تشهد فيه المنصّة ضموراً غير مسبوق في حركتها وكميّة الدولارات التي تقوم ببيعها. مع الإشارة إلى أنّ عمليّات تزويد الدولة بالدولارات من الاحتياطات، لتمويل عقودها، ما زالت تفتقد بدورها للشفافيّة المطلوبة، وتحديدًا لجهة الأولويّات التي يتم على أساسها الإنفاق من الاحتياطات.
في كل الحالات، تظهر أرقام المنصّة في الوقت نفسه بعض المعطيات النافرة التي لا يمكن تفسيرها، ومنها على سبيل المثال اقتصار حجم عمليّات المنصّة على 16 مليون دولار في اليوم، في بداية الأسبوع، وبلوغها مستوى 95 مليون دولار يوم الجمعة الماضي. وهذا التذبذبات الغريبة في عمل المنصّة توحي باستفادة عدد محدود من التجّار من هذه التداولات في أيّام معيّنة، مقابل امتناع المصارف عن بيع دولارات المنصّة للغالبيّة الساحقة من سائر المستوردين. وتجدر الإشارة إلى أنّ مصرف لبنان لم يضع حتّى اللحظة أي نظام أساسي يحدد أولويّات بيع الدولار للمستوردين، حسب القطاعات وحجم الاستيراد. وهو ما يجعل هذه التداولات تتسم بالكثير من الغموض.
بنود الذهب والنقد المتداول بالليرة
من جهة أخرى، أظهرت الميزانيّة نصف الشهريّة انخفاض قيمة بند الذهب فيها من 16.48 مليار دولار في منتصف شهر آب، إلى نحو 15.99 مليار دولار في نهاية الشهر، نتيجة استمرار الانخفاض في سعر الذهب في أسواق المال العالميّة. مع العلم أنّ مصرف لبنان يعمد في العادة إلى إعادة تقييم موجودات الذهب في الميزانيّة نصف الشهريّة، لتعكس أسعار الذهب في الأسواق العالميّة. وفي نتيجة هذه التطوّرات، تكون قيمة بند الذهب الحاليّة في ميزانيّة المركزي قد عكست انخفاضًا بأكثر من 1.12 مليار دولار، مقارنة بمنتصف شهر شباط الماضي حين بلغت قيمة البند نحو 17.12 مليار دولار.
في المقابل، سجّلت الميزانيّة انخفاضاً محدوداً في قيمة النقد المتداول خارج مصرف لبنان، أي قيمة النقد الورقي بالليرة الموجود في السوق، إذ تراجعت قيمة هذا البند من 43.64 ألف مليار ليرة إلى 43.37 ألف مليار ليرة. ورغم محدوديّة هذا الانخفاض، وعدم قدرته على التأثير بشكل كبير على موازين العرض والطلب في سوق القطع، إلا أنّه ما زال يعكس قدرة المصرف المركزي على ضبط الكتلة النقديّة المتداولة ضمن حدود معيّنة، وهو ما يمثّل المؤشر الإيجابي الوحيد في أرقام نهاية شهر آب الماضي.
مع العلم أن قيمة النقد المتداول كما في نهاية آب الماضي، أي 43.37 ألف مليار ليرة لبنانيّة، مازالت أقل بنحو 5.4% من قيمة النقد المتداول في بداية هذا العام، قبل شروع المصرف المركزي بعمليّات امتصاص النقد بالليرة من السوق لضبط سعر الصرف. وبذلك، يكون مصرف لبنان قد قلّص قيمة النقد المتداول في السوق بالليرة منذ بداية العام بنحو 248 مليار ليرة لبنانيّة، ما يعني أن التراجع في سعر صرف الليرة لم يكن ناجمًا عن التوسّع في خلق النقد وزيارة عرض السيولة بالليرة، بل عن زيادة الطلب على الدولار الأميركي في السوق.
في جميع الحالات، ما زالت الضغوط النقديّة على قيمة الليرة اللبنانيّة على حالها، وهو ما أدّى إلى ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازية من 31,875 ليرة للدولار في منتصف شهر آب إلى 34,400 ليرة للدولار في نهاية الشهر، في نتيجة بديهيّة لاستمرار تعثّر جميع مسارات الحل الشامل، وخصوصًا تلك التي ينص عليها التفاهم المعقود مع صندوق النقد الدولي. وحتّى مضي لبنان بتنفيذ خطّة تعاف مالي شاملة، بما يسمح بتوحيد وتعويم سعر الصرف بشكل مضبوط، من غير المتوقّع أن تشهد أزمة سعر الصرف أي انفراجات جديّة.