بينما كان البرلمانيون منشغلين بالتفصيل والخياطة على حجم مكاسبهم وطموحاتهم السياسية، انصرف مصرف لبنان لإعادة كتابة قانون النقد والتسليف بأحرف الأزمة النقدية والمالية والاقتصادية، متجاوزاً دوره التقليدي إلى تبنّي سياسات استثنائية فرضها الواقع المرير، في ظلّ غياب أي رؤية إصلاحية متكاملة من قبل السلطة السياسية.
الإجراءات التي اتخذها مصرف لبنان، والتي جاءت في شكل تعاميم نقدية متلاحقة، لم تكن مجرّد قرارات إدارية، بل شكلت واقعاً نقدياً جديداً في لبنان، أدّى إلى تغيير جذري في طبيعة العلاقة بين المصرف المركزي، المصارف التجارية، والمودعين.
إن مقارنة هذه الإجراءات بما حصل في دول أخرى تواجه أزمات مالية مماثلة، مثل الأرجنتين (2001-2002)، اليونان (2015)، وقبرص (2013)، تكشف أن معظم هذه الدول لجأت إلى حلول موقتة، لكنها سرعان ما وضعت خططاً استراتيجية للخروج من أزماتها المالية. على عكس ذلك، لم تضع الدولة اللبنانية أي خارطة طريق واضحة للخروج من الأزمة، بل اكتفت بإدارة الانهيار من خلال قرارات آنية لم تعالج جوهر المشكلة، ما أدّى إلى إطالة أمد الأزمة وتعميقها.
منذ بداية الأزمة في 2019، لجأ مصرف لبنان إلى سلسلة من التعاميم التي كان من المفترض أن تخفّف من حدّة الانهيار، لكنها في الواقع كرّست الفوضى النقدية. فالتعميم 150 (9 نيسان 2020) استحدث “الدولار الفريش” كآلية إنقاذية جزئية، لكنه حكم بالإعدام على الودائع القديمة بالعملة الأجنبية، ما عمّق أزمة المودعين الذين لم يعد بإمكانهم استرجاع أموالهم بالقيمة الفعلية. وفي محاولة لتدارك تداعيات هذا القرار، جاء التعميم 151 (21 نيسان 2020) ليُنشئ “الدولار المحلي”، لكنه فرض سعر صرف أقلّ من السوق الموازية، ما أدّى إلى مزيد من انعدام الثقة بين المودعين والمصارف.
أما التعميم 154 (27 آب 2020)، فقد شكّل خطوة نحو إعادة هيكلة القطاع المصرفي من خلال إلزام المصارف بتأمين 3% من أرصدتها بالعملة الأجنبية لدى المصارف المراسلة. ومع ذلك، لم يُرافق هذا القرار آلية تنفيذية صارمة، ما جعل الامتثال له شكلياً. كما فرض إعادة بين 15% و30% من الأموال المحوّلة إلى الخارج منذ 2017، لكنه لم يتضمّن إجراءات رادعة للمصارف التي امتنعت عن الامتثال.
التعميم 157 (10 أيار 2021) أسّس لمنصة “صيرفة”، لكنه لم يُفعّلها فوراً، ما جعلها أداة غير فعّالة في ضبط سوق القطع الأجنبي لفترة طويلة. ثم جاء التعميم 158 (8 حزيران 2021)، ليقسم المودعين إلى فئات عبر تحديد “ودائع مؤهلة وغير مؤهلة”، وهي خطوة غير مسبوقة عالمياً، تسبّبت في مزيد من الإرباك بدلاً من تقديم حلّ جذري لأزمة الودائع.
التعميم 161 (16 كانون الأول 2021) عدّل أهداف منصة “صيرفة” وربطها بصرف رواتب القطاع العام بسعر صرف مدعوم، ما أدّى إلى زيادة الإقبال عليها لكنها بقيت أداة غير شفافة. في حين حاول التعميم 165 (19 نيسان 2023) إعادة الحياة إلى القطاع المصرفي عبر الحسابات الفريش، إلّا أنه قوبل برفض سياسي واسع، واعتُبر محاولة غير مباشرة لتبييض خسائر المصارف.
أما التعميمان 166 و167 (2 شباط 2024)، فقد جاءا كمحاولة لاستبدال تعاميم سابقة انتهت صلاحيّتها. وأخيراً، جاء التعميم 168 (4 حزيران 2024) لتعزيز الشفافية المالية عبر إلزام المصارف بالإفصاح عن المالكين الفعليين، لكنه لم يُرفَق بإجراءات تنفيذية قوية، ما يجعله أقرب إلى إجراء شكلي منه إلى إصلاح حقيقي.
في ظلّ هذه التعاميم، يبرز تساؤل أساسي: هل كانت هذه السياسات النقدية ضرورية لإدارة الأزمة، أم أنها مجرّد محاولات لشراء الوقت دون حلول مستدامة؟
إضاءة على بعض التعاميم الأساسية
من الصعب تلمّس استراتيجية واضحة انتهجها البنك المركزي لإخراج لبنان من الأزمات التي يتخبّط فيها منذ أكثر من خمس سنوات. وقد اتهم المصرف المركزي في السابق بتوظيف موارده لإنقاذ السلطة الفاسدة وتمويل سياساتها الفاشلة، إن المقياس الفعلي لسياسات المصرف لا يكمن في التقييمات المتناقضة، بل في ما تعكسه التعاميم النقدية التي صدرت كردّ فعل مباشر على الأزمات المتتالية.
إن تواريخ هذه التعاميم وإجراءاتها تُشكّل الإطار العام الذي يُفترض أن تستند إليه أي خطة إنقاذ نقدية ومصرفية، لكنها تبقى بعيدة كل البعد من أي خطة إصلاحية ذات أبعاد اقتصادية ومالية مستدامة. فقد جاء كل واحد من هذه التعاميم في ظروف استثنائية، وبلغة تحاكي طبيعة الأزمة التي وُلد منها، لكنه في الوقت نفسه أزاح المسؤولية عن السلطة السياسية وألقى بها على كاهل مصرف لبنان، واضعاً إيّاه في مواجهة مباشرة مع الأزمة، دون أن يمتلك الأدوات الكافية لحلّها جذرياً.
لنُلقِ نظرة موجزة على عدد من التعاميم الأساسية لمصرف لبنان التي صدرت خلال سنوات النكبة إلى يومنا هذا:
●التعميم 150، تاريخ 9 نيسان 2020، هو تاريخ ولادة حسابات “الدولار الفريش” التي أعادت روحاً للقطاع المصرفي كان قد فقدها بعد التعثر غير المنظّم في 7 آذار 2020. ولإعطاء مصداقية إضافية لهذه الحسابات، بعد أن فقدت المصارف كل الثقة التي كانت تتمتع بها، توجّب على كل مصرف وضع مؤنة 100% من أرصدة هذه الحسابات لدى المصارف المراسلة – وهذا يجعلها سيولة خارجية جاهزة. ومن تداعيات هذا الانفراج كان الحكم بالإعدام على الدولارات والأرصدة بالعملة الأجنبية في الحسابات المكوّنة والإيداعات المتمّمة قبل هذا التاريخ.
●التعميم 151، تاريخ 21 نيسان 2020، هو تاريخ استدراك مصرف لبنان خطورة التعميم 150 وولادة “الدولار المحلي”، الاسم المعتمد من قبل السلطة النقدية، وحدّد المركزي سعر صرف استثنائياً للسحوبات تحت أحكام هذا التعميم. كان من الممكن تدارك هذا الأمر وتصويب الأداء من خلال مواكبة حركة الدولار في سوق القطع الأجنبي.
●التعميم 154، تاريخ 27 آب 2020، هو تاريخ ولادة خطة مصرف لبنان لإعادة هيكلة القطاع المصرفي والإضاءة على أمرين بغاية الأهمية: الـ 3% من أرصدة الحسابات المكونة بالعملة الأجنبية (أي الدولار المحلي وليس الدولار الفريش) النظيفة التي يتوجب على المصارف التجارية في لبنان تأمينها وإيداعها لدى المصارف المراسلة لتصبح سيولة خارجية جاهزة؛ والأمر الآخر هو إعادة ما بين 15%، للأفراد، و 30%، لكبار المساهمين والـ PEPs، من الأموال المحولة إلى الخارج والتي نُفذت منذ تموز 2017 وتفوق الـ 500000 دولار؛ والتهديد بمحاكمة من لا يلتزم بهذه الطلبات تحت أحكام قانون محاربة تبييض الأموال رقم 2015/44.
●التعميم 157، تاريخ 10 أيار 2021، هو تاريخ تأسيس، وليس إطلاق العمل بمنصة صيرفة. وحتى تاريخه، لم يشرح مصرف لبنان الأسباب الموجبة وراء إلزام جميع المصارف العاملة في لبنان بالتسجيل على المنصة والخضوع لدورات تدريبية على تقنيات العمل على المنصة، ولكن ترك لكل مصرف حرية التداول عليها. وروحية هذا التعميم كانت تعود بالمنفعة لأصحاب الودائع بالدولار المحلي، ولكن غياب الرقابة وممارسة الزبائنية من قبل المصارف دفع بمصرف لبنان إلى توقيف العمل بهذا التعميم.
●التعميم 158، تاريخ 8 حزيران 2021. إنه القرار الأول الذي هدف، مع سابق إصرار وتصميم، على رسم حدود الودائع المؤهلة وخصّصها بقسط من الدولارات الفريش، والودائع غير المؤهلة أبقاها تحت الإقامة الجبرية في الحسابات المصرفية تواجه مصير الاستبعاد النقدي والتآكل مع التمنيات بعدم الإتلاف.
●التعميم 161، تاريخ 16 كانون الأول 2021، هو التعميم الذي عدّل أهداف منصة صيرفة وفعّل العمل بها، ومن أهم ما فيه هو صرف رواتب وأجور القطاع العام على سعر صرف مدعوم، ويعمل به فقط لمدة شهر قابلة للتعديل بأحكامه، تجديد العمل بها، أو إلغائها. وهذا يعكس طبيعة الاضطرابات التي كان يشهدها سوق القطع الأجنبي في سعر الصرف.
●التعميم 165، تاريخ 19 نيسان 2023، هو التعميم الذي أطلق عجلة إعادة الحياة إلى عمل المصارف التجارية من خلال “الحسابات الفريش” بالليرة اللبنانية والعملة الأجنبية، وجاء بطلب من مجموعة العمل المالي (FATF)، هذا في التحليل وليس بالمعلومات، ليتمكن لبنان فعلياً من العودة إلى استعمال وسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي ولهذا تداعيات إيجابية عديدة أهمها: تجفيف وتخفيف التداول بالأوراق النقدية، وهذا يضيّق المساحة التي أعطاها “اقتصاد الكاش” إلى المضاربين والمحتكرين ومن يفتش على وسيلة لتبييض الأموال؛ وما عجزت عنه مكونات السلطة السياسية لجهة إقرار قوانين لإعادة الحياة إلى القطاع المصرفي وإطلاق عجلة ترميم الثقة بين المصارف والمواطن اللبناني أسّس له هذا التعميم. لم تتلق اللجنة الاقتصادية البرلمانية هذا الإجراء بإيجابية بل تم تصنيفه بأنه عملية سرقة مموّهة!
●التعميم 166، تاريخ 2 شباط 2024، كان محاولة فاشلة لاستبدال التعميم 151 بعد أن أنهيت صلاحياته في آخر سنة 2023. ولكن كان من الضروري صرف المستحقات بـ “الدولار الفريش “بعد أن نجح مصرف لبنان بتجفيف الكتلة النقدية بالليرة وتوسّعت رقعة الدولرة في الاقتصاد.
●التعميم 167، تاريخ 2 شباط 2024، ذكر بخجل منصة صيرفة التي يدّعي مصرف لبنان بأنه يريد استبدالها بمنصة بلومبرغ الأكثر شفافية. وكما جرت العادة لجهة أداء مكونات السلطة الحاكمة، توقفت صيرفة ولم يحن وقت إطلاق المنصة البديلة بلومبرغ.
●التعميم 168، تاريخ 4 حزيران 2024، يأتي هذا التعميم في إطار التزام مصرف لبنان بتعزيز الشفافية المالية، حيث يفرض على المصارف والمؤسسات المالية الإفصاح عن المالكين الفعليين، ما يحول دون استخدام شركات وهمية أو أسماء مستعارة لإخفاء أموال غير مشروعة. ويُلزم التعميم جميع المؤسسات المالية بتزويد مديرية الشؤون القانونية في مصرف لبنان بقوائم مفصلة للمساهمين الذين يمتلكون أكثر من 5% من الأسهم، إلى جانب أعضاء مجالس الإدارة وكبار التنفيذيين. كما يحتفظ مصرف لبنان بحق طلب معلومات إضافية عن المساهمين الذين يملكون أقل من 5% من الأسهم، خاصة إذا كانت هناك شبهات حول ملكية غير شفافة. وتشمل آليات الرقابة المدرجة في التعميم إجراء عمليات تحقق دورية لضمان أن الأسماء الواردة ليست مدرجة على قوائم العقوبات الأممية والدولية. يعزز هذا الإجراء الضوابط الوقائية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، كما يوفر للمصارف العاملة في لبنان آليات أكثر أماناً لتحديد المخاطر المرتبطة بمساهميها.
في النتيجة، تظهر تعاميم مصرف لبنان على أنها مجموعة إجراءات استثنائية أملتها طبيعة الأزمة النقدية والمالية، ولكنها في الواقع تشكّل تجاوزاً غير مسبوق لدور المصرف المركزي المحدّد في قانون النقد والتسليف. لقد تمكّن المجلس المركزي لمصرف لبنان، عبر هذه التعاميم، من فرض سياسات نقدية وتنظيمية لم تكن للسلطة السياسية الجرأة على تبنّيها أو تحمّل تبعاتها.