بحلول مطلع هذا الشهر، وكنتيجة لعمليّات بيع الدولار عبر منصّة صيرفة، تمكّن مصرف لبنان من امتصاص ما يقارب 3937 مليار ليرة لبنانيّة من السوق المحلّي، أو ما يقارب 8.5% من إجمالي الكتلة النقديّة التي كانت المتداولة في السوق في منتصف الشهر الماضي. وبذلك، يمكن القول أن المصرف المركزي تمكّن بالفعل من تقليص حجم السيولة الموجودة في السوق بالليرة اللبنانيّة خلال فترة قياسيّة لا تتجاوز الأسبوعين. وهو ما يمثّل تطوّراً لافتاً وغير مسبوق في سياق الأزمة النقديّة اللبنانيّة، وخصوصًا من جهة حجم الانخفاض في الكتلة النقديّة المتداولة. مع الإشارة إلى أن هذا الانخفاض سيسمح على المدى القصير بالحفاظ على انخفاض سعر صرف الدولار مقابل الليرة، بعد سحب “الكتلة النقديّة الساخنة” القادرة على خلق الطلب السريع والمتذبذب على الدولار الأميركي في السوق الموازية.
لكن في المقابل، يشير الكثير من المتابعين إلى أن هذا النوع من الصدمات السريعة والمفاجئة لا يمكن أن يمر من دون تداعيات اقتصاديّة قاسية على الأسواق التجاريّة. فتجفيف السيولة من السوق المحلّي بهذا الشكل، غالبًا ما يترك نتائج عكسيّة على مستوى الحركة التجاريّة وحجم الطلب في الأسواق، ما ينعكس في العادة على شكل زيادة في معدلات الركود والانكماش الاقتصادي على المدى المتوسّط. وفي حال قرر مصرف لبنان الاستمرار بهذه السياسة على مدى الأسابيع المقبلة، فمن المرتقب أن تبدأ المؤسسات التجاريّة قريبًا بتحسس أثر هذه السياسة على حجم أعمالها الشهريّة.
وفقًا للميزانيّات، وخلال النصف الثاني من شهر كانون الثاني، استطاع مصرف لبنان من تخفيض قيمة بند “الموجودات الأخرى” في ميزانيّاته بنحو 1.5 مليار دولار. مع العلم أن هذا البند يعكس في العادة حجم الخسائر المتراكمة تاريخيًّا في ميزانيّة المصرف المركزي، والتي يخفيها المصرف عبر الإبقاء على احتسابها كموجودات من ضمن الميزانيّة. بمعنى آخر، ثمّة عمليّات محاسبيّة شكليّة جرت بالتوازي مع تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع، لتخفيض قيمة هذه الخسائر المتراكمة، وهو ما يطرح السؤال عن سرّ هذه العمليّات وخلفيتها.
مصادر مصرفيّة تشير إلى أنّ مصرف لبنان استفاد من الفارق بين سعر الصرف الرسمي، المعتمد لاحتساب قيمة الدولارات الموجودة بحوزته، وسعر صرف المنصّة الذي تم اعتماده لبيع هذه الدولارات، لتسجيل أرباح دفتريّة ناتجة عن تدخّله الأخير في سوق القطع. وبهذه الطريقة، تمكّن مصرف لبنان من استغلال عمليّة إنفاق هذه الدولارات لإطفاء جزء من الخسائر السابقة المتراكمة في ميزانيّته، على حساب قيمة احتياطات العملة الأجنبيّة التي تم استنزافها خلال هذه الفترة. وفي خلاصة العمليّة، تم تحميل الاحتياطات كلفة معالجة جزء من خسائر ميزانيّة مصرف لبنان، بعمليات دفترية سريعة، وهو ما يطرح السؤال عن الجهة التي ستتحمّل في النهاية كلفة تبديد دولارات الاحتياطات على هذا النحو.
كما كان متوقّعًا، ارتفعت وتيرة استنزاف احتياطات مصرف لبنان في النصف الثاني من شهر كانون الثاني، لتبلغ حدود 394 مليون دولار خلال 15 يومًا فقط، مقارنةً بنحو 115 مليون دولار فقط في النصف الأوّل من ذلك الشهر. وبما أنّ مصرف لبنان بدأ في منتصف كانون الثاني عمليّة بيع الدولار بسعر المنصّة من دون قيود، فمن الطبيعي الاستنتاج بأن ارتفاع وتيرة استنزاف الاحتياطات في النصف الثاني من هذا الشهر يرتبط بشكل أساسي بعمليّة التدخّل الواسعة في سوق القطع. مع الإشارة إلى أن استنزاف الاحتياطات المحدود والأقل حجمًا في النصف الأوّل من كانون الثاني يرتبط بدوره بالتعميم 161، الذي أتاح الحصول على السحوبات النقديّة من المصارف بالدولار الأميركي، وبسعر المنصّة أيضًا، قبل أن يقرر مصرف لبنان في منتصف الشهر فتح باب بيع الدولارات عبر المنصّة من دون قيود. وفي النتيجة، تجاوزت قيمة الدولارات التي تبديدها خلال كانون الثاني نتيجة الخطوتين –التعميم 161 وبيع الدولار عبر المنصّة بشكل مفتوح- حدود النصف مليار دولار.
الإشكاليّة الأساسيّة في الميزانيات تكمن في خلط مصرف لبنان ما بين أموال حقوق السحب الخاصّة، التي منحها صندوق النقد للدولة اللبنانيّة، واحتياطات المصارف الإلزاميّة، التي تمثّل آخر ما تبقى من أموال المودعين في النظام المصرفي. وبهذه الطريقة، بات من الصعب معرفة ما إذا تم تحميل كلفة هذه العمليّة للدولة اللبنانيّة، عبر الإنفاق من حقوق السحب الخاصّة، أو إلى أصحاب الودائع الموجودة في المصارف، عبر تبديد ما تبقى من احتياطات إلزاميّة.