مما لا شك فيه أنّ قطاع النقل المشترك بعيد كل البعد عن التنظيم في ظلّ غياب تفعيل الخطط والمبادرات وحتى تخصيص الاعتمادات اللازمة والهيكليات الشاملة التي تحفظ حقوق السائق، من جهة، وتسهّل حياة المواطن اليومية، من جهة أخرى. في هذا السياق يقول رئيس اتحادات قطاع النقل البرّي بسّام طليس، انّ كلفة النقل في لبنان تقع على عاتق القطاع الخاص الذي يقوم مقام الدولة في كل ما من شأنه إدامة نشاط النقل البرّي في البلاد، نظراً لعدم وجود قطاع نقل عام فعال تحت إشراف الدولة أسوة بالدول العربية والأوروبية.
ففي حين أنّ قطاع النقل العام يمثّل ما نسبته 80% عالمياً من إجمالي نشاط النقل، مقابل 20% فقط للقطاع الخاص، تبدو النسب معكوسة في لبنان، إذ يمثّل القطاع الخاص أكثر من 90% من إجمالي حركة النقل في بلد يُقدر عدد السيارات والمركبات المسجلة فيه بالمليونين بحسب العديد من الإحصاءات.
ولدى سؤاله حول مدى المساواة في توفير خدمة النقل المشترك لمختلف المناطق اللبنانية، يجيب المدير العام لمصلحة سكك الحديد والنقل المشترك، السيد زياد نصر، بأنّ التوزع الاقتصادي والديموغرافي في لبنان، الذي نتج عنه تركّز عمراني وسكاني واقتصادي وسياسي غير متناسق مقارنة مع باقي المناطق في بيروت الكبرى، أدّى إلى تصاعد قوة جذب هذه الأخيرة. وأضاف أنه كلما ارتفع عدد سائقي السيارات في منطقة معينة كلما ازدادت الخدمات المرتبطة بهم، مثل شبكة الطرق وورش الصيانة والمواقف وحتى أماكن التسوق. للمفارقة، يؤكّد السيد طليس هنا أن عدد المركبات العمومية الموضوعة بالخدمة بجميع فئاتها (سيارات سياحية، ميني باص وأوتوبيس) يغطي نظرياً حاجة المواطنين في التنقل، مردفاً “نحن الآن بصدد تنظيم الخطوط بشكل أفضل بالتعاون مع وزير الأشغال العامة والنقل، تحضيراً للبدء بتطبيق خريطة دعم للقطاع اعتباراً من بداية شهر كانون الأول من العام الحالي تماشياً مع الالتزام الذي حصلنا عليه من رئيس الحكومة يوم الاضراب الذي كان مقرراً في 27/10/2021”. لكن حتى إشعار آخر، هل ثمة ما هو أسوأ من سوء توزيع الوفرة”؟
تدهور واقع القطاع من عام لآخر جعل أصحاب الشأن يرفعون الصوت من خلال مبادرات وخطط واقتراحات حلول، طواها الزمن في “جوارير” الحكومات المتتالية. مثلاً، القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء عام 2004 بتخصيص مبلغ 50 مليار ليرة لبنانية لشراء 250 أوتوبيساً للاستخدام في بيروت الكبرى، لم يبصر النور إلى التنفيذ؛ خطة “النقل الوطنية” التي وُضعت بالتعاون مع وزارة الأشغال العامة والنقل ومجلس الإنماء والإعمارعام 2011، والتي قسّمت إلى ثلاث مراحل، بهدف تحقيق التكامل بين القطاعين العام والخاص وإعادة إحياء النقل المشترك، سكك الحديد ونظام “المترو”، لم تلق أي تجاوب حتى اليوم؛ الدراسة الجاهزة التي أعدّها بنك الاستثمار الأوروبي عام 2013 بكلفة مليوني دولار أميركي كهبة للدولة اللبنانية لم تُطبّق هي الأخرى. قرض البنك الدولي الذي حصلت عليه الحكومة اللبنانية سنة 2019 بقيمة 295 مليون دولار لتمويل مشروع الباص السريع لم يبق منه في متناول وزارة الأشغال العامة والنقل سوى 40 مليون دولار بعد أن تقرر أخيراً تحويل 255 مليون دولار من أصله لتمويل البطاقة التمويلية الموعودة.
أمّا في ما يختص بالمعاينة الميكانيكية، فحدّث ولا حرج. فهي تدار منذ 01/07/2015 بصفة غير شرعية. وهو ما دفع هيئة إدارة السير والآليات والمركبات إلى رفع كتاب رسمي إلى وزارة الداخلية والبلديات معتبرة أنّ استمرار العمل بالمعاينة الميكانيكية يتمّ بدون أيّ مسوّغ قانوني منذ التاريخ المذكور آنفاً. ووفقاً للسيد طليس، يتمّ الدفع مقابل إنجاز معاملات المعاينة لصالح أشخاص وليس لصالح جهات رسميّة.
هذا ورافق الحديث عن الاتجاه إلى رفع الدعم عن السلع الأساسية والمحروقات تحذيرات متكررة من ارتفاع تكلفة النقل بشكل هستيري مع ما قد ينتج عنه من فوضى عارمة وتقطيع ما تبقى من شرايين حياة في أوصال القطاع. أما وقد وقعت الواقعة، فيستحيل التكلم عن تسعيرة موحّدة حيث تتفاوت بين منطقة وأخرى وشارع وآخر…لا بل بين سيارة أجرة وأخرى. ومع ذلك، يمكن ملاحظة ارتفاع التعرفة بنسبة لا تقل عن 70%. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت تعرفة الباص قبل حلول جائحة كورونا على خط برمانا – الدورة 1,500 ليرة لبنانية للشخص الواحد، لترتفع بعدها إلى 3,000 ل.ل محافظة على وتيرة تصاعدية لتصل اليوم إلى 10,000 ل.ل وأحياناً 12,000 ل.ل. أما ضمن نطاق بيروت الإدارية، فقد ارتفعت تعرفة الفانات من 3,000 ل.ل إلى 6,000 ل.ل يقابلها 60,000 ل.ل بدل توصيلة بسيارة أجرة داخل بيروت، 300,000 ل.ل كلفة التنقل من ضهور الشوير إلى بيروت و600,000 ل.ل من بيروت إلى شكا.
هذه الفوضى المتمادية بآلية التسعير دفعت بالاتحادات إلى تقديم اقتراح توفير دعم ما للقطاع بهدف الخروج بتعرفة موحّدة تصدر عن وزارة الأشغال العامة والنقل وتراعي ظروف السائق والراكب على حدّ سواء. والانتظار يطول. يرفع السيد نصر الصوت عالياً حول ضرورة أن يتصدّر قطاع النقل المشترك سلّم الأولويات في معالجة ما يعترض الحياة اليوميّة للمواطن. وهو الأمر الذي بات يستدعي معالجة شاملة وجدّية. كما ناشد الحكومة الجديدة بضرورة إقرار خطة النقل المشترك التي طال انتظارها، مشدّداً على ضرورة إيجاد حلول سريعة وجذرية تصحيحاً لممارسات السنوات السابقة “التدميرية” لأنّ المواطن لم يعد قادراً على تحمّل أعباء تفوق طاقته بأشواط.
وفي الختام، يشير السيد نصر إلى سعي لإيجاد آلية قانونية لإمداد السائقين العموميين بالمحروقات المدعومة تفادياً لخلق سوق سوداء تكوي جيوبهم المنهكة أصلاً. ويتطرق إلى الجهود المشتركة التي تُبذل مع وزير الأشغال العامة والنقل الحالي، الدكتورعلي حميّة، لرسم سياسة عامة للنقل يُقسم من خلالها لبنان جغرافياً إلى مناطق عدة، كما إلى تحقيق شراكة بين القطاعين العام والخاص.