في زمن المراوحة وحرق الوقت، قليلةٌ هي المؤشّرات الاقتصاديّة التي تشهدُ تطوّرات إيجابيّة تُذكر، حيث تكاد الأخبار السعيدة تنحصر بالخبر اليومي والرتيب عن استقرار سعر صرف الليرة، منذ الربع الثاني من العام الماضي. غير أنّ أهم الاستثناءات التي تدل على تحسّن ما، ولو بشكل نسبي ومحدود، تمثّلت في الانخفاض التدريجي الذي شهده معدّل التضخّم طوال الأشهر الماضية، بحسب أرقام إدارة الإحصاء المركزي. إذ ولغاية نهاية شهر نيسان الماضي، كانت أرقام هذا المؤشّر قد بلغت أدنى مستوى لها منذ العام 2020، وهو ما يؤشّر إلى تباطؤ الزيادة السنويّة في أسعار السوق.
التراجع المستمر في معدّل التضخّم
حتّى نهاية شهر نيسان الماضي، كان مؤشّر أسعار المستهلكين قد سجّل ارتفاعًا سنويًّا بنسبة 59.67%، مقارنة بنسب أعلى بكثير، بلغت 268.78% في الفترة المماثلة من العام الماضي 2023، و222.88% في الفترة المماثلة من العام 2022، و110.24% في نفس الفترة من سنة 2021.
بهذا المعنى، بلغ معدّل التضخّم السنوي أدنى حدود له على الإطلاق، مقارنة بالسنوات الثلاث الماضية، أي أواخر منذ العام 2020. مع الإشارة إلى أنّ نسبة الزيادة السنويّة في مؤشّر أسعار المستهلك في الفترة المماثلة من العام 2020 لم تتخطّ حدود الـ 46.55%، إلا أنّ هذه النسبة الضئيلة جاءت متأثرة باستمرار دعم استيراد السلع الأساسيّة، مثل المحروقات والقمح والأدوية. وعليه، يمكن القول أنّ معدّل التضخّم الحالي يمثّل أدنى نسبة سجّلها لبنان منذ بدء رفع الدعم التدريجي عن السلع الأساسيّة المستوردة، وهو ما يعطي هذا التطوّر أهميّة استثنائيّة.
من المهم الإشارة هنا إلى أنّ هذه النسبة تمثّل معدّل الزيادة السنويّة في أسعار سلّة من السلع الاستهلاكيّة في السوق، مقارنة بأسعارها قبل سنة واحدة بالتمام والكمال. وبهذا المعنى، لا يؤشّر انخفاض معدّل التضخّم إلى انخفاض الأسعار، لكنّه يؤشّر إلى انخفاض وتيرة زيادتها السنويّة.
ومن المعلوم أن نسبة الزيادة الحاليّة، وإن مثّلت تحسنًا ملحوظًا، مازالت أعلى بكثير من معدلات التضخّم التي تشهدها الاقتصادات غير المأزومة. فعلى سبيل المثال، يقدّر صندوق النقد الدولي أن تقتصر هذه النسبة على نحو 7.5% عام 2024، بالنسبة للأسواق الناشئة والدول الناميّة، وعلى 5.3% بالنسبة للاقتصاد العالمي ككل.
منذ عدّة أشهر، شهدت البلاد انخفاضًا تدريجيًا في نسبة التضخّم السنوي، لتصل إلى مستوياتها الراهنة، المنخفضة نسبة للسنوات السابقة. فهذه النسبة كانت قد بلغت 177.25% في أواخر الشهر الأوّل من العام الحالي، قبل أن تنخفض إلى 70.36% في أواخر شهر آذار، وصولًا إلى 59.67% في أوخر الشهر الماضي. بهذا المعنى، يصبح من الواضح أنّ ثمّة مسار من الانخفاض المستمر في معدلات التضخّم، بتأثير من استقرار سعر صرف الليرة، الذي لطالما مثّل العامل الأكثر تأثيرًا على أسعار السوق، من دون أن يكون العامل المؤثّر الوحيد بالطبع.
تفاصيل زيادات الأسعار
الدخول في تفاصيل أرقام إدارة الإحصاء المركزي، يكشف ما هو أكثر مدعاة للتفاؤل، بخصوص معدلات ارتفاع الأسعار. فأسعار المواد الغذائيّة والمشروبات غير الكحوليّة، لم ترتفع على أساس سنوي –لغاية شهر نيسان- إلا بنحو 33.5%، وهو ما يقل بشكلٍ كبير عن نسبة ارتفاع الأسعار العامّة في السوق.
وعلى النحو نفسه، لم ترتفع كلفة النقل إلا بحدود الـ 9.15%، فيما اقتصرت نسبة الزيادة في أسعار الملابس على 27.2%. وبهذا الشكل، وبخلاف ما كان عليه الحال خلال السنوات الماضية، لم تعد هذه السلع الحسّاسة، التي تتأثّر سريعًا بسعر الصرف، العنصر الذي يقود ارتفاع أسعار السلع بالسوق.
لكن في المقابل، بدا واضحًا أنّ هناك زيادات كبيرة في أسعار بعض السلع التي لا تقل حساسيّة على المستوى المعيشي. وعلى سبيل المثال، سجلت تكاليف التعليم (المدارس والجامعات) زيادات بنسبة هائلة، بلغت حدود الـ 589.23%، وهو ما يعكس أثر التعديلات التي قامت بها المدارس والجامعات الخاصّة على أقساطها، خلال الأشهر الماضية.
وبنفس الشكل، سجّلت تكاليف الإيجارات السكنيّة زيادات كبيرة بنسبة 128.16%، بفعل تعديل عقود الإيجار بعد انتهاء مفاعيلها. وبشكل عام، قادت تكاليف الإيجارات وأقساط التعليم نسبة الارتفاع الإجماليّة في أسعار السوق، بعدما سجّلت أعلى نسب ارتفاع، مقارنة بأبواب الإنفاق الأخرى التي ترصدها أرقام إدارة الإحصاء المركزي كل شهر.
زيادة الأسعار ونسب الفقر
تراجع نسب التضخّم، لا يعني انتهاء مفاعيل وآثار الزيادات التي طرأت على أسعار السوق خلال السنوات الماضيّة، خصوصًا أن هذه الأسعار تستمر بالارتفاع اليوم وإن بنسب أقل. والمشكلة الأساسيّة، تكمن حاليًا في عدم مواءمة أجور القطاعين العام والخاص، مع ارتفاع الأسعار الذي جرى، ومع انخفاض قدرة الأجور الشرائيّة في السوق.
ولعل أبرز مؤشّر على هذه الإشكاليّة، برز في تقرير البنك الدولي الأخير، الذي بيّن ارتفاع نسب الفقر في صفوف اللبنانيين إلى حدود الـ 33% بحلول العام 2022، مقارنة بـ 11% فقط قبل عقد واحد. وبهذا الشكل، وبفعل الأزمة الاقتصاديّة القائمة اليوم، بات واحد من كل ثلاثة لبنانيين تحت خط الفقر، كما باتت معدلات الفقر اليوم أعلى بثلاث أضعاف مقارنة بالعام 2012. وهذا ما يفرض حتمًا العودة إلى مسألة التصحيح الشامل للأجور، التي تغاضت عنها السلطة السياسيّة منذ بداية الانهيار الاقتصادي.
في النتيجة، يبقى من المهم التنويه إلى أنّ الاستقرار الراهن في الأسعار مازال مربوطًا باستقرار سعر صرف الليرة، وهو ما يرتبط بدوره بطبيعة السياسات النقديّة المعتمدة من قبل مصرف لبنان. وهذه السياسات التي نجحت في ضبط سعر الصرف على المدى القصير، بإجراءات ركّزت على ضبط حجم الكتلة النقديّة المتداولة في السوق، ستحتاج إلى سلة الإصلاحات الشاملة لتحقيق هذا الاستقرار النقدي على المدى الطويل. وهو ما يعيد التذكير بأهميّة العودة إلى خطّة تعافي مالي متكاملة، بدل الاكتفاء بالمعالجات الظرفيّة والمحدودة الأفق التي يتم تنفيذها اليوم.