في العسكر ثمّة تكتيك قتالي اسمه الستار الدخانيّ. هو كناية عن قنابل تُصدر دخاناً كثيفاً، بما يشكّل جداراً حاجباً للرؤية يُستخدم للتغطية على هجوم في نقطة غير محسوبة.
المبدأ نفسه موجود في الرياضة والسياسة والمال والأعمال، وخصوصاً في عالم الجريمة والسرقة، وفي كلّ نشاط إنساني تقريباً. إنّه التمويه بتسميته الحيادية أو التضليل بتوصيفه الفعليّ.
ما يجري حول مصرف لبنان ستارٌ دخانيّ كثيف. أمّا الهدف فهو سرقة نحو 9 مليارات دولار بقيت من أموال الناس. إنّه شريط من نوع تلفزيون الواقع. تدور أحداثه الآن في لبنان. ويستحقّ المشاهدة وكشف السيناريو.
الزمن السوري
لفهم ما يحصل، فلنبدأ بمسلَّمة: كلّنا نعرف الزمن السوري. وما يزال “خبراؤه” في مذكّراتهم، غير المنشورة، يروون وقائع مذهلة كيف كان غازي كنعان يعيّن سلطات الدولة كلّها. من ساكن بعبدا حتى آخر عبدٍ مسكون بهاجس سلطة ونفوذ.
يومها لم يكن المنصَّبون يهتمّون بمصدر شرعيّتهم أو مقبوليّتهم لدى ناسهم أو لدى اللبنانيين. شرعية عنجر كانت كافية لتختصر عندهم كلّ المرجعيّات والشرعيّات. كان يكفي لها أن تسمّي ليصبح المُسمّى “شرعيّاً” مزوّداً ومحصّناً بكلّ أدوات “الشرعية”.
لكنّ المشكلة ظهرت بعد جلاء السوري. طُرح السؤال على أركان التركيبة: كيف ننسج الآن شرعيّةً لسلطتنا ونضمن استمرارها واستدامتها بعد عنجر؟
سريعاً تقاطع أركان السلطة على أنّ المطلوب لذلك يقتضي العمل على مستويَيْن اثنين: على مستوى الناس، كما على مستوى تكوين أدوات السلطة وتركيب ماكيناتها وعُدّة شغلها كاملة على مستوى البلد.
– أوّلاً على مستوى الناس، كان الموضوع سهلاً. ثلاث عبارات كانت كافية:
مسيحيّاً: “حقوق المسيحيين وتعويضهم عن حرمانهم منافع الدولة طوال الزمن السوري”.
سنّيّاً: “دم رفيق الحريري”. ثمّ لاحقاً بعد 7 أيّار وحكومة ميقاتي 2011: “مظلوميّة أهل السُّنّة”.
أمّا شيعيّاً فكان القاموس أكثر غنى وتكثيفاً: “الحرب الشيطانية على المقاومة”. “خرج المارد الشيعي من القمقم ولا قوّة تعيده إليه”… وصولاً إلى معادلات مكتومة من نوع “يريدون إعادتكم ماسحي أحذية”…
ثلاث عبارات تنميطيّة كانت كافية لحسم زعامات القبائل الثلاث الأساسية. لا بل شكّلت غطاءً لانتقال أيّ زعيم من أقصى يمين إلى أقصى يسار. وبالعكس. من سيادي إلى استتباعي. ومن تغييري إلى إقطاعي، ومن إصلاحي إلى إفسادي… بلا أيّ محاسبة أو حتى سؤال من ناسه: “إنّها مصلحة الطائفة”. عبارة شكّلت أضخم غسّالة للعقول والجيوب في التاريخ السياسي والبشري.
مصلحة الزعيم ومصلحة الجماعة
صار المخلوق المتحرّك على الأرض اللبنانية، بصفته مسيحياً أو سنّياً أو شيعياً أو درزياً، والمصطفّ خلف زعيم قبيلته، يؤمن بأنّ استفادة الزعيم من منافع الدولة ومغانم السلطة، ولو عبر إثراء شخصي له أو لعائلته، إنّما هو اقتطاعٌ مشروعٌ من “الدولة الظالمة”، لصالح القبيلة المظلومة. لا بل هو اقتطاع ضروري لتأمين مصلحة جماعته. وبالتالي مصلحة هذا المواطن بالذات شخصياً.
هكذا لم يعد هناك فساد. بل سلسلة اقتطاعات قَبَليّة من جسم “الدولة غير العادلة”، لصالح قبائل الطوائف الساعية إلى عدالتها وخيرها الخاصَّين. وهكذا يُفهم نجاح الزعماء في طوائفهم أكثر، كلّما نجحوا أكثر في “اقتطاعاتهم” تلك من الدولة. لأنّهم بذلك يكونون أكثر قدرة على إقناع قطعان القبيلة بأنّهم هم الضامنون لهم وهم حماة قبيلتهم والمدافعون عنها وعن حقوقها المسلوبة والمهدورة من قبل الدولة، أو من قبل القبائل الأخرى وزعمائها…
– ثانياً، تركيب أدوات السلطة: هنا لم يخطئ الزعماء لحظة. منذ البداية عرفوا أنّ مفاصل اللعبة محدّدة بهذه العناوين: التوظيف. الخدمات. والإنفاق. وثلاثتها مطلوبة على مستوى القطاعين العامّ والخاصّ. وبالتالي كلّها متمحورة حول عنصر واحد: المال.
لكن من أين يأتي هؤلاء الزعماء بالمال المطلوب؟
هنا وُلدت منظومة الزبائنية الشاملة.
بكلّ بساطة اتُّخذ قرار بتضخيم حجم إنفاق الدولة بشكل هائل، لا من أجل الإنماء طبعاً، ولا لتنفيذ مشاريع حيوية، ولا لإقامة بنى تحتية، بل للإنفاق وحسب، بغرض تكوين شبكة مصالح حول كلّ زعيم من زعماء المنظومة. وهو إنفاق رسميّ عبر الزعماء حصراً طبعاً، يسمح لكلّ منهم بأن يبني حوله طبقة جديدة من “سماسرة السلطة” أو “رجال الزعيم”. فيصير لكلّ زعيم قبيلة مصرفيّوه ومتعهّدوه في الأشغال ومقاولوه في الطاقة وتاجر محروقاته ومستورد أدويته ووكيل سيّاراته وبلطجيّ كسّاراته ومرامله… وصولاً إلى تمويل إعلامه وناديه واتّحاده الرياضي ومهرجانه السياحي وجمعية زوجته وطبعاً حركته الشخصية وحزبيّته.
هكذا ضاعت الودائع
كان المطلوب حجماً ضخماً من الإنفاق الرسمي، بما يسمح للمنظومة باقتطاع ما يكفي منه، لتكوين تلك الطبقة من عدّة الشغل والنصب.
لكن من أين يأتون بتمويل هذا الإنفاق؟
بكلّ بساطة، أو صفاقة، تكفّل مصرف لبنان بسحب أموال الناس. عبر كلّ المغريات والحوافز الممكنة. من فوائد مرتفعة إلى سلسلة من السرّيّات. تأخذ المنظومة تلك الأموال مباشرة من المصرف عبر شهادات الإيداع أو مواربة عبر المصارف الخاصة بسندات الدين والتوظيفات الإلزامية. وتنفقها باسم الموازنة الحكومية، على تكوين تركيبتها الزبائنية. ثمّ تردّها لأصحابها بالليرة اللبنانية، التي طُلب أيضاً من المركزي تغطية طباعتها إلى ما لا نهاية، تحت غطاء عجز الموازنة وعجز ميزان المدفوعات.
ولأنّ عمليّة كهذه تحتاج إلى وسيط، كُلّفت المصارف الخاصة بهذا الدور. لقاء عمولة تفضيليّة. ومع تطمين مسبق وجازم: “لا تخافوا. إذا حصل أيّ تطوّر سلبي، وهو بنظرنا مستبعد لا بل مستحيل، نظراً لسيطرتنا الكاملة على اللعبة، نسمح لكم بتهريب أموالكم مع أموالنا. وأصلاً تكونون طوال فترة اللعبة قد هرّبتم ما يكفي لقاء خدمتكم لنا”…
هكذا أُنفق طوال 18 عاماً أكثر من مئة مليار دولار. بين ودائع الناس وما تيسّر من مساعدات خارجية ومن جبايات وعائدات للدولة. أُنفقت كلّها، ولم يحصل مواطن على كهرباء.
أصلاً موضوع الكهرباء أفضل قرينة جنائية على جريمة المنظومة. يقدّر جواد عدرا، في تغريدة له، هامش الربح السنويّ غير المشروع لمافيا المحروقات سابقاً، بنحو 300 مليون دولار، يتقاسمها أركان المنظومة عبر ممثّليهم في تلك المافيا. وروى وئام وهّاب أنّه سمّاهم بالأسماء لميشال عون.
لكنّ ما لم يحسبوه أو يهتمّوا له، أنّ جريمة اقتطاعهم 300 مليون دولار هذه، كانت كلفتها على الخزينة العامّة، 3 مليارات دولار عجزاً سنوياً في مؤسّسة كهرباء لبنان. ورتّبت على الناتج الوطني خسائر سنوية ربّما بلغت ضعفَيْ هذا الرقم.
للمناسبة، ذات مرّة اقترحت جدّيّاً ميراي ميشال عون (التي كان الرئيس السابق يصفها بأنّها عقله، والتي تركت بعبدا قبل نهاية العهد بسنوات) فكرة قانون لتمويل الأحزاب اللبنانية رسمياً من قبل الحكومة، كما تفعل الدول الديمقراطية، بحيث تدفع الدولة مثلاً خوّة المحروقات البالغة 300 مليون دولار سنوياً مباشرة للأحزاب، فتوفّر على الكهرباء 2.7 مليار، وعلى الاقتصاد أكثر بكثير. لكنّ الفكرة رُفضت كليّاً ولم تُقبل مناقشتها حتى…
والأمر نفسه في كلّ القطاعات الأخرى التي سُخّرت لبناء تركيبة الزبائنية المذهبية بنجاح، بما جعل المواطن المخدوع والمسروقة ودائعه والمحروم من أدنى حقوقه، يستمرّ في مبايعة زعيمه!
الآن وصلوا إلى محطّة حاسمة ونقطة تغيير:
السلطة لم تعد قادرة على تغطية اللعبة ولا على تطمين أيّ قائم بها. فبين شغور مؤسّساتها ونفاد إمكاناتها واحمرار عين بعض الخارج منها، صارت عاجزة عن فرض استمرار الجريمة على عملائها. وهذا ما يفسّر رفض نوّاب الحاكم.
فيما مصرف لبنان بات مفلساً، وبالتالي أعجز من أن يستمرّ في اللعبة، وصولاً إلى خروج رياض سلامة بالشكل الذي يخرج به، وهو ما لا يشجّع أيّ شخص آخر على متابعة مهمّته.
أمّا المصارف الخاصّة فتحوّلت إلى مفهوم مصارف – زومبي، تنتظر إمّا لحظة للهرب، وإمّا وعد المنظومة لها بإنقاذها وإعادة تعويمها على حساب شطب كامل أموال الناس.
هكذا انفجرت أزمة الحاكمية. فهاجس المنظومة الوحيد هو الاستمرار في اللعبة وإنفاق آخر قرش ممّا بقي من ودائع الناس لضمان بقائها في السلطة أطول مدّة ممكنة، على أمل أن يكون الوقت كافياً وكفيلاً بنجاتها وبإعادة تخدير الناس.
المطلوب استمرار وضع اليد على 9 مليارات دولار من آخر أموال الناس، كافية لمدّ السلطة بالأوكسيجين لسنة أو سنتين. يخلق الله بعدها ما لا نعلم. إنّها مسألة حياة أو موت للمنظومة. لا سماح فيها ولا مزاح. من هنا شراسة المعركة المعلنة والمفتوحة.
وكلّ الأسلحة مسموحة فيها. من التهديد إلى التصفية المعنوية على الأقلّ. فكيف بستار دخانيّ حاجب للرؤية عن سرقة آخر 9 مليارات دولار؟!