مفاجآت جديدة في قانون إعادة هيكلة المصارف

نُشر أخيرًا، في الجريدة الرسميّة، المضمون النهائي لقانون إصلاح أوضاع المصارف وإعادة تنظيمها، المعروف بقانون إعادة هيكلة المصارف، والذي سيُحدّد حدود صلاحيّات كل من لجنة الرقابة على المصارف والهيئة المصرفيّة العليا، في إطار عمليّة إعادة هيكلة القطاع. وفي النصّ الكامل المنشور، كان لافتًا وجود مفاجآت مهمة على صعيدين:

أولًا، اختلاف مضمون بعض الفقرات عما استنتجه النوّاب من خلاصات التصويت في الهيئة العامّة للمجلس. وهو ما يوحي أنّ ما طُرح على التصويت، بالنسبة لبعض البنود، تُرك غامضًا لغرض التفاوض على كيفيّة الصياغة الحرفيّة لاحقًا. وهذا ما يعيد فتح النقاش، الذي بات مألوفًا اليوم، حول أصول التشريع والتصويت داخل الهيئة العامّة للمجلس، بعدما أصبح عُرفًا أن يجهل النوّاب حقيقة ما صوّتوا عليه.

ثانيًا، لم تطابق العديد من بنود القانون، في صيغته النهائيّة، ورقة الملاحظات التي قدّمها صندوق النقد. وبما أنّ غرض الإسراع في إقرار القانون كان تلبية شروط الصندوق بالذات، من المتوقّع أن يضطرّ المجلس لاحقًا إلى تمرير تعديلات جديدة على ما تمّ تشريعه. وهذا ما يُذكّر باضطرار البرلمان إلى إعادة تمرير قانون جديد لرفع السريّة المصرفيّة هذه السنة، إذ لم يلبِّ قانون رفع السريّة السابق -المُقر عام 2022- شروط الصندوق.

مفاجآت في تركيبة “الغرفة الثانية”

المفاجأة الأولى في صياغة القانون، لجهة اختلافه عن النتائج المتوقّعة للتصويت، جاءت في تركيبة الغرفة الثانية للهيئة المصرفيّة العليا. ومن المعلوم أنّ هذه الغرفة بالتحديد ستتولّى الجزء التنفيذي الأكثر حساسيّة في القانون، من طريق اتخاذ القرارات الحاسمة بشأن المصارف التي سيتم تصفيتها، وتلك التي ستخضع إلى عمليّة “إصلاح الوضع”.

في جلسة الهيئة العامّة، وافق البرلمان على أن مقترح يقضي بتشكيل هذه الغرفة من ثمانية أعضاء، وهم: الحاكم، ونائبه الأوّل، وأحد نوّابه الآخرين، وخبير مالي يقترحه وزير المال، وخبير اقتصادي يقترحه وزير الاقتصاد، وقاضٍ يقترحه وزير العدل (ويعيّن الخبيرين والقاضي بمرسوم في مجلس الوزراء)، ومدير عام وزارة الماليّة، وأحد أعضاء مجلس إدارة مؤسّسة ضمان الودائع.

غير أنّ مفاجأة غير متوقّعة جاءت في الصيغة التي تم نشرها في الجريدة الرسميّة، إذ بات اسم الخبير الاقتصادي يُقترح من وزير الاقتصاد، إنما من لائحة مرشحين يعدها تجمّع الهيئات الاقتصاديّة. وهذه الفكرة الإشكاليّة كانت قد وردت في الصيغة الأولى المٌقترحة من لجنة المال والموازنة، قبل أن تُرفع من الصيغة النهائيّة التي تمّ التصويت عليها في الهيئة العامّة للمجلس، بناءً على نقاش مع وزير المال ياسين جابر.

المشكلة في هذه المفاجأة، تكمن في كونها تضرب مبدأ استقلاليّة الغرفة الثانية عن المصارف التجاريّة، التي يفترض أن تكون موضوع الأحكام التي ستصدرها الهيئة المصرفيّة العليا. إذ تمثّل جمعيّة المصارف أحد الأعضاء المؤسّسين والفاعلين في تجمّع الهيئات الاقتصاديّة، وهو ما سيجعلها شريكًا في قرارات تحكم على ملاءتها وسيولتها وقدرتها على الاستمرار.

وتجدر الإشارة إلى أنّ الصيغة النهائيّة ثبّتت عضويّة أحد أعضاء مؤسّسة ضمان الودائع في هذه الغرفة أيضًا، على رغم هيمنة المصارف على مجلس إدارة المؤسّسة. وهذا المبدأ جاء متوافقًا مع نتائج التصويت في الجمعيّة العامّة، لكنّه جاء متعارضًا مع ورقة ملاحظات صندوق النقد، الذي تحفّظ على هذه الفكرة من باب تعزيز استقلاليّة الهيئة المصرفيّة العليا.

في جميع الحالات، وبحسب الصيغة الأخيرة لقانون إصلاح أوضاع المصارف، سيتأثّر ترشيح عضوان (من أصل ثمانية) في الغرفة الثانية بقرار المصارف التجاريّة. وستشمل الغرفة أربعة من أعضاء المجلس المركزي لمصرف لبنان، وهم الحاكم ونائباه ومدير عام وزارة المال.

تعديلات لمصلحة الصندوق والمصارف

شملت الصيغة النهائيّة بعض التعديلات الأخرى، التي تعارضت مع الصيغة التي تم التصويت عليها في الهيئة العامّة. ومعظم هذه التعديلات، كانت ذات طابع تقني، بناءً على توصيات صندوق النقد الدولي.

فعلى سبيل المثال، في الصيغة التي أقرّتها الهيئة العامّة للبرلمان، امتلكت الهيئة المصرفيّة العليا الحق في إجراء تقويم جديد لأي مصرف، بمعزل عن التقويم السابق الذي تقوم به لجنة الرقابة على المصارف. وهذا ما همّش دور لجنة الرقابة إلى حد بعيد. وبعد إبداء صندوق النقد بعض التحفّظات إزاء هذه الفكرة، تم تعديل الصيغة النهائيّة التي نُشرت في الجريدة الرسميّة، لينحصر حق التقييم -بالنسبة للهيئة المصرفيّة العليا- في الحالات التي ينطوي فيها تقييم لجنة الرقابة على “أخطاء وثائقيّة بتاريخ التقييم”. وبذلك، تم تقييد هذا الحق إلى حد بعيد.

والصيغة التي أقرّتها الهيئة العامّة للمجلس، نصّت على وجوب عدم إفصاح الهيئة المصرفيّة العليا عن “أدوات إصلاح وضع المصرف المعني”، عند إصدار قرارات إصلاح الوضع بالنسبة لأي مصرف. وهذا ما تحفّظ عليه صندوق النقد، بالنظر إلى محدوديّة الشفافيّة التي يمكن أن ينطوي عليها هذا الإجراء. ولذلك، تم تعديل الصيغة النهائيّة، لتعطي الهيئة المصرفيّة العليا حق تقرير “أن يتضمّن أو لا يتضمّن” قرارها الإفصاح عن أدوات معالجة وضع المصرف.

بعض التعديلات على الصيغة النهائيّة جاءت لمصلحة أصحاب المصارف وكبار الإداريين فيها. إذ لم تشمل هذه الصيغة فكرة استرجاع الأرباح المُحققة من تداول المعلومات الداخليّة في المصارف بشكل غير قانوني، على رغم ورود هذا المبدأ في الصيغة التي تم التصويت عليها في الهيئة العامّة للمجلس.

تجاهل توصيات أخرى للصندوق

وعلى رغم التعديلات التي قرّبت الصيغة النهائيّة من توصيات صندوق النقد، كان من الواضح أنّ القانون -في نسخته النهائيّة- تجاهل العديد من توصيات الصندوق. فعلى سبيل المثال، تركت الصيغة النهائي إمكان الطعن بقرارات الهيئة المصرفيّة العليا، من الناحية التقنيّة، أمام القضاء، على رغم توصية الصندوق بحصر هذه الطعون بالمراجعات القانونيّة فقط، لتفادي عرقلة قرارات الهيئة من قبل المصارف. كما تجاهلت الصيغة النهائيّة توصيات الصندوق بضرورة احتساب خسائر المصارف جرّاء توظيفاتها في مصرف لبنان، بناءً على تقرير مالي دقيق. كما تغاضى القانون عن توصيات الصندوق المتعلّقة بتضييق نطاق الطعون في تقويم لجنة الرقابة، من قبل المصارف، لتفادي عرقلة توصيتها بشكلٍ متكرّر.

بعد نشر كل تشريع جديد، أصبح من الطبيعي أن تتناول التحليلات ما طرأ من “تعديلات” على الصيغة النهائيّة، بعد التصويت على القانون في الهيئة العامّة للبرلمان. وهذا تحديدًا ما تناوله -للأسف الشديد- هذا المقال بالذات. غير أنّ عبارة “تعديلات”، لا يفترض أن تدفعنا إلى تجاهل أنّنا نتعامل هنا مع مخالفة دستوريّة كبرى. مخالفة تتجسّد في أنّ تفاوضًا ما يجري بعد التصويت على تشريعات بالغة الخطورة والحساسيّة، لوضع النصوص النهائيّة، بما قد يتجاهل إرادة من يمثّل الأمّة في البرلمان. بل وقد يتعارض معها.

وطريقة التصويت الفوضويّة في البرلمان، لم تعد مجرّد تسرّع أو قلّة تنظيم. بل باتت سياسة مقصودة لتحقيق هدف مدروس: أن لا يعلم النائب حقيقة ما تمّ التصويت عليه!

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةستارلينك في مرمى الاتهام: صفقة تقنية أم خرق للسيادة؟
المقالة القادمةالدولة المدمرة لصناعتها: لبنان نموذجاً