منصوري ونوّاب الحاكم وكسل السياسة النقديّة.. الكهرباء مثالاً

حسنًا فعل القائم بأعمال حاكم مصرف لبنان وسيم منصوري، ونوّاب الحاكم الثلاثة الآخرين، عندما ذكّروا المجلس النيابي وحكومة تصريف الأعمال بمسؤوليّاتهما، وتقاعسهما عن إجراء الإصلاحات المطلوبة، ومنها الموازنة وتشريعات إعادة هيكلة القطاع المصرفي. وكذلك حين ضغطوا لوضع قيود على الاستنزاف العشوائي من الاحتياطات، الذي كان يتم من خارج أي رؤية أو خطة إصلاحيّة شاملة. وربما لهذا السبب، تمكّن منصوري من كسب تعاطف جزء من الرأي العام وبعض المتابعين للشأن الاقتصادي المحلّي، خصوصًا حين اتخذ بعض المواقف الحادّة في وجه الحكومة.

على أن التشدّد في وضع السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة أمام مسؤوليّاتهما، قابله تجاهل من جانب السلطة النقديّة، أي منصوري ونوّابه، لمسؤوليّات مصرف لبنان ودوره في هذه المرحلة بالتحديد. لا بل كان من الواضح أن أغلب السجال السياسي والاقتصادي انساق إلى تجاهل هذا الجانب من النقاش، وكأن تقاعس مصرف لبنان عن أداء دوره يصبح مبرّرًا، تحت شعار مواجهة استهتار الطبقة السياسيّة. هكذا، يتم تطبيع كسل السياسة النقديّة وخمولها، فلا يسأل أحد مثلًا عن خطورة عدم وجود أداة تداول شفافّة بالعملة الصعبة، كبديل عن منصّة صيرفة سيئة الذكر، ما يمنع شراء حاجة القطاع العام للدولارات حتّى لو تمكنت المؤسسات العامّة من تحقيق التوازن المالي وتأمين الإيرادات.

الخلط بين الاقتراض وعمليّات القطع

عند الحديث عن “تمويل الدولة من مصرف لبنان”، الذي يشيطنه منصوري وبعض الإعلام بشكل شعبوي وحاد، غالبًا ما يتم الخلط بين مسألتين.

– المسألة الأولى هي الإقتراض، سواء بالدولار أو الليرة، وهو ما يحمّل السياسة النقديّة كلفة مؤذية في فترات الأزمات، سواء من خلال استنزاف الاحتياطات إذا تم الإقراض بالعملة الصعبة، أو من خلال خلق النقد في حال تم الإقراض بالليرة اللبنانيّة. في واقع الأمر، المشكلة الأساسيّة تبرز حين يكون الإقراض من خارج أي خطّة تصحيح شاملة، ما يجعله مجرّد مراكمة غير مجدية للخسائر.

– المسألة الثانية، هي بيع القطاع العام حاجته من الدولار، تمامًا كما يشتري القطاع الخاص الدولارات من السوق الموازية أو الصرّافين، لتحويل الإيرادات بالليرة إلى دولارات. فحتّى لو أمّنت مؤسسة كهرباء لبنان مثلًا التوازن المالي، وهو ما حدث بالفعل خلال الأشهر الماضية، ستحتاج المؤسسة إلى تحويل هذه الإيرادات بالليرة إلى دولارات نقديّة، للتمكن من استيراد الفيول أو سداد كلفة عقود الإشراف والصيانة. وهذه العمليّات، لا يمكن أن يقوم بها –بالنسبة للمؤسسات العامّة- إلا مصرف لبنان، بوصفه مصرف الدولة، ولكون قانون النقد والتسليف يمنع الدولة أساسًا من إجراء عمليّات مع المصارف الخاصّة أو السوق السوداء.

التداول بالعملات الأجنبيّة مع القطاع العام، يفترض أن يكون من ضمن الآليّة التي تستوعب عمليّات القطع في السوق ككل، من أجل تحديد سعر الصرف بحسب آليّات العرض والطلب، ومن أجل السماح لمصرف لبنان بالتدخّل في سوق القطع عند الحاجة، للحفاظ على قيمة العملة المحليّة. وهذه المهمّة، يفترض أن تكون من صلب مهام أي مصرف مركزي في العادة، كجزء من سياسته النقديّة.

غياب أداة التداول بالدولار

إذا كان الحد من التمويل بمعنى الإقتراض مفهومًا، وخصوصًا بغياب الموازنة والإصلاحات والرؤية الماليّة الشاملة، فعدم وجود آليّات التمويل بمعنى عمليّات القطع هو جريمة بحق ما تبقى من دور للدولة والقطاع العام. وبخلاف ما يتم تسويقه، المطلوب هنا ليس استنزاف الاحتياطات، بل توفير آليّة تسمح باستيعاب عمليّات القطع في السوق، ما يفسح المجال أمام تعويم وتوحيد سعر الصرف أولًا، ودخول الدولة كشارٍ للعملة الصعبة ثانيًا. مع الإشارة إلى أنّ دخول الدولة شارية للعملة الصعبة لن يعبث بتوازنات العرض والطلب بالضرورة، إذا تمكن القطاع العام من الوصول إلى مرحلة التوازن المالي. فالليرات التي سيتم استعمالها لشراء الدولار عبر المنصّة، هي أموال الجباية التي تم جمعها نقدًا من السوق، والتي كانت ستتجه في العادة لشراء الدولار في جميع الأحوال.

في السابق، وقبل مغادرة رياض سلامة مكتبه في المصرف المركزي، كانت الآليّة المعتمدة لهذه الغاية هي منصّة صيرفة. ومشاكل المنصّة كانت متعددة: إذ لم تخضع آليّة تسعير الدولار لتوازنات العرض والطلب، كما لم يُعرف كيفيّة تحديد هذا السعر أصلًا. ولم تكن الآليّة شفافة من ناحية تحديد الفئات المستفيدة من عمليّات الشراء والبيع. بمعنى آخر، لم تحقق منصّة صيرفة شيئًا مما ما هو مطلوب منها، كمنصّة للتداول الحرّ بالدولار.

بعد انتهاء ولاية سلامة، تم إلغاء المنصّة، ما مثّل خطوة ضروريّة ومطلوبة لإنهاء هذه الظاهرة التي زادت من تشوّه السياسة النقديّة وإلتباساتها. إلا أنّ إلغاء منصّة صيرفة، لم يوازيه حتى هذه اللحظة خطّة أو رؤية ما لإطلاق منصّة تداول بديلة، بل وعلى العكس تمامًا، بدأ مصرف لبنان بتطبيع فكرة رفضه لتمويل الدولة، ولو بعمليّات قطع طبيعيّة، من دون الإقتراض. أمّا المشكلة الأساسيّة والأهم، فهي مطالبة نوّاب الحاكم باستبدال آليّة القطع بفكرة عقد الاستقراض، الذي تذهب إلى إقراض الدولة من الاحتياطات المتبقية، بدل بيعها الدولارات من خلال آليّة التداول المطلوبة.

التداعيات الكارثيّة

يوم الجمعة الماضي، أصدرت مؤسسة كهرباء لبنان بيانًا أعلنت فيه أنّها أقرّت للمرّة الأولى منذ سنوات موازنة سنويّة لا تحتوي على أي عجز مالي. كما أفادت الشركة بأنّها تمكنت من تحصيل فواتير بقيمة 2.51 ألف مليار ليرة لبنانيّة، وفقًا لسعر صرف “المنصّة + 20%”، كما هو متفق عليه مع مصرف لبنان، أي بسعر صرف يتجاوز سعر صرف السوق الموازية. وعلى هذا الأساس، طالبت المؤسسة بتمكينها من تحويل هذه الإيرادات المحققة إلى الدولار الأميركي، بمبلغ يفترض أن يوازي 37.25 مليون دولار أميركي، حسب سعر الصرف المعتمد وقت الجباية.

لو أنّ مؤسسة كهرباء كانت إحدى مؤسسات القطاع الخاص، كحال أصحاب المولّدات الخاصّة الذي يهيمنون على قطاع الكهرباء، لكان من الممكن أن يتم تحويل هذه المبالغ إلى الدولار من خلال السوق الموازية، لشراء الفيول المطلوب لتشغيل المعامل. إلا أنّ وضعيّة المؤسسة، كإدارة عامّة، تفرض التوجّه إلى مصرف لبنان لإجراء عمليّة القطع، تمامًا كما يفرض قانون النقد والتسليف. مع الإشارة إلى أنّ الضوابط المحاسبيّة والإداريّة لا تسمح أصلًا بتحويل الأموال إلى الدولار بأسعار السوق الموازية، حتّى لو تم تجاوز القاعدة القانونيّة.

تمامًا كحال مؤسسة الكهرباء، ستحتاج جميع الإدارات والمؤسسات العامّة إلى هذا النوع من عمليّات القطع، حتّى بعد تأمين التوازن المالي، والاستغناء عن آليّات الاقتراض من مصرف لبنان. وآليّة القطع، يفترض أن تندرج من ضمن السياسة النقديّة الأوسع لمصرف لبنان، التي يفترض أن تسعى لتعويم سعر الصرف، واستيعاب عمليّات السوق الموازية، ضمن تداولات النظام المالي الرسمي. ومن دون أداة التداول هذه، لن يتمكّن المصرف المركزي أصلًا من التدخّل مستقبلًا في مسألة سعر الصرف، أو ضبط عمليّات المضاربة، وهو ما يفترض أن يكون أحد الأدوار الأساسيّة لمصرف لبنان بحسب القانون.

بالمختصر المفيد، تمامًا كما يفترض أن تسعى الحكومة إلى تحقيق التوازن المالي في الإدارة العامّة، والتخلّص من الاستنزاف المستمر في الاحتياطات، من واجب مصرف لبنان أن يؤمّن التداول بيعًا وشراءً بالعملة الصعبة، مع الإدارات العامّة. وكما أشرنا سابقًا، لا تحتاج هذه الآليّة بالضرورة إلى استنزاف متمادٍ من الاحتياطات. بل وعلى العكس تمامًا، إذا تمكّنت الإدارات العامّة من تحقيق التوازن المالي، فلن تؤدّي عمليّات القطع لحساب القطاع العام لأكثر من إعادة ضخ الليرات التي يتم جمعها من السوق، عبر جباية الرسوم والضرائب.

مسار من هذا النوع، سيحتاج إلى جهد بالتأكيد، من جانب المصرف المركزي. إلا أنّ التقاعس عن دخول هذا المسار، لن يعكس سوى خمول السلطة النقديّة، أو ربما بعض النكايات السياسيّة.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةبغياب الرئيس وحضور برّي وميقاتي: “طوافة” الآمال تستعجل الغاز
المقالة القادمةهل ستكسر قمة بريكس هيمنة الدولار الأميركي؟