مختلف السيناريوات تشير إلى قفزات كمية ونوعية في سعر صرف الدولار مقابل الليرة عقب الانتخابات النيابية. حيث سيتأثر بعاملين أساسيين: الاول معنوي، ويتعلق باستمرار تراجع منسوب ثقة الداخل والخارج. خصوصاً إن لم تشهد هذه الانتخابات تغييراً في موازين القوى لصالح دعاة بناء الدولة، والفشل في تشكيل حكومة إنقاذية سريعاً، تتولى تنفيذ الاصلاحات واستكمال الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
الثاني موضعي، ويرتبط بـ:
– نفاد احتياطيات العملة الاجنبية القابلة للاستعمال.
– التوقع بوقف مصرف لبنان العمل بالتعميم 161، الذي خفض سعر الصرف من حدود 33 ألف ليرة في منتصف كانون الأول 2021، إلى 21500 كمعدل وسطي من خلال ضخ أكثر من عدة مليارات دولار على مدار 5 أشهر.
– ارتفاع فاتورة الاستيراد نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا، وتأثيرها على أسعار النفط والحبوب ومواد وسلع أخرى، وما تتطلبه من ازدياد الطلب على الدولار لتأمين فاتورة الاستهلاك الداخلي.
الانخفاض الاصطناعي الذي شهده سعر الصرف خلال الأشهر الخمسة الاخيرة بدأ يفقد زخمه في نيسان الفائت. حيث تراجع متوسط ضخ الدولار من قبل مصرف لبنان على منصة صيرفة من 75.2 مليون دولار كمتوسط يومي في آذار، إلى 61 مليوناً في شهر نيسان. ذلك مع العلم أن عدد أيام عمل «صيرفة» كان 22 يوماً في آذار، و 17 يوماً فقط في نيسان. كما شهد شهر آذار أكبر كمية ضخ للدولار في يوم واحد بلغت 94.5 مليون دولار في 29 آذار. أما لجهة سعر الصرف على صيرفة فقد ارتفع من 20200 ليرة مطلع آذار إلى حدود 23 الف ليرة نهاية نيسان، بالتوازي مع تراجع كمية الدولار التي ضخّت على «صيرفة». ومع انتظار توقف العمل بالتعميم 161 الذي يتجدد شهرياً، أو تعديله، فان الطلب على الدولار من قبل التجار والافراد سيتحول إلى السوق الثانوية، بعدما كانوا بائعين له للحصول على الفرق وتحقيق الربح، أقله بالنسبة للافراد ولفئة من الممتهنين المتاجرة بالعملة. وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع كبير في سعر الصرف. ولا سيما مع ارتفاع فاتورة استيراد البنزين (بلغت الكمية المستوردة في العام 2020 حوالى 1.8 مليون طن) نتيجة عجز مصرف لبنان عن تأمينها على سعر صيرفة، والطلب من المستوردين تأمين المبالغ بالدولار النقدي على غرار ما حصل مع المازوت.
هذه الأسباب مجتمعة تضعها المتخصصة في الاقتصاد النقدي في البلدان المدولرة الدكتورة ليال منصور في كفة، وتضع في الكفة الثانية استمرار التعامل بالليرة في ظل اقتصاد مدولر. فمهما زدنا «أوزان» الدولار من خلال التدخل في سوق القطع، أو «ثقّلنا» الاصلاحات، و»خففنا» الاستيراد في الكفة الاولى، فان الكفة الثانية ستبقى «طابشة» وبقوة لمصلحة ارتفاع سعر الصرف. إذ إن المسار الذي يحكم سعر الصرف في بلد مدولر بأكثر من 85 في المئة هو الارتفاع الدائم. ولو هدأ مرحلياً لأشهر أو حتى سنوات، نتيجة السياسات التدخلية، فسيعود حتماً إلى الارتفاع.
على عكس ما قد يعتقده الكثيرون، فان المشكلة التي يواجهها لبنان ليست ظرفية لتحل بالتدخل في سوق القطاع. إنما هي بنيوية، وتتمثل في وجود «طابعة» نقود تعمل على مدار الساعة في ظل اقتصاد «يتنفس» الدولار، ويعتمد عليه لتأمين أكثر من 90 في المئة من احتياجاته، وحتى المواد الاولية للانتاج. وكما يوجد في الاقتصاديات أزمات عقارية ومصرفية، وأزمات طارئة كـ»الكورونا»… هناك أيضاً أزمة تعرف بـ»أزمة سعر الصرف في بلدٍ مدولر»، تقول الدكتورة ليال منصور. و»النوع الاخير من الأزمات لا يقارن بما سبق ذكره لا في الشكل ولا في المضمون. وهو يتطلب طريقة مختلفة في المعالجة. ففي حين تنجح التدخلات المالية والنقدية وتغيير السياسات الضرائبية في معالجة الازمات الكلاسيكية، يؤدي استعمال الوسائل نفسها في مواجهة الازمات الناتجة عن سعر الصرف في بلد مدولر إلى استمرار المشكلة للأبد». وذلك ببساطة لأن «الازمة تبقى بحاجة للثقة بالعملة مهما مر عليها من أيام، وتبدلات سياسية وتقنية»، برأي منصور. وهذا ما أثبته لبنان في الواقع المجرب مرتين: الأولى من خلال فشل تجربة تثبيت سعر الصرف على 1500 ليرة منذ العام 1997 ولغاية العام 2019. والثانية من خلال التعميم 161 المستمر منذ منتصف كانون الاول 2021 والذي يتدخل مصرف لبنان بواسطته بائعاً يومياً لملايين الدولارات. وفي الحالتين «يعود سعر الصرف لـ»الانفجار» بمجرد رفع «القدم» عن «لغم» دعم الليرة.
الخيارات التي يمكن أن يلجأ إليها لبنان لمعالجة مشكلة سعر الصرف محدودة جداً، وهي محصورة بثلاثة:
– الخيار الاول، يفترض تحرير الصرف وترك تحديد السعر لقاعدة العرض والطلب في السوق، من دون أي تدخل من قبل السلطة النقدية. هذا الحل الذي يطلبه صندوق النقد الدولي نظراً لسهولة تطبيقه من الناحية التقنية، «يشكل كارثة الكوارث»، بحسب الدكتورة ليال منصور. «لان الطلب على الليرة معدوم. حيث لم تنجح دولة واحدة مدولرة في العالم في حل أزمتها من خلال تحرير سعر الصرف طيلة القرن الماضي».
– الخيار الثاني، تثبيت العملة على سعر صرف جديد، كما حدث سابقاً. و»هذا الاجراء يتطلب بالاضافة إلى توفّر احتياطيات وامكانيات هائلة للتدخل، «الثقة العمياء» بالدولة التي يعاد بناؤها على أسس جديدة، ومع عقد اجتماعي جديد. وذلك كما حدث في تسعينيات القرن المنصرم»، بحسب منصور. «إلا أن إمكانية فشل هذا النموذج أكبر بكثير من نجاحه على الرغم من كلفته العالية وشبه استحالته بالنسبة للبنان راهناً. وهو يبقى غير مستدام، ويعتبر معوّقاً أساسياً لجذب الاستثمارات الخارجية في المستقبل».
– الخيار الثالث، ويتمثل في الانتقال إلى نظام Hard peg من خلال الاختيار بين «الانتقال الكامل إلى الدولار» full dollarisation أو «مجلس تثبيت القطع» currency board اللذين ينتميان إلى العائلة نفسها»، برأي منصور.
الخيار الأخير لا يعبر عن وجهة نظر، إنما عن «واقع فشل المصرف المركزي في إدارة العملة لاكثر من 40 سنة». بحسب منصور. و»هو يمنع الدولة أن يكون بحوزتها خزنة تمد «يدها الطويلة» اليها متى احتاجت. ويحيد الاقتصاد عن الصراعات السياسية، والنزاعات العسكرية، والمشاكل الجيوسياسية… مهما خفتت أو اشتدت حدتها. فالعملة المعتمدة تصبح الدولار الاميركي حصراً، «المنتج» داخلياً بواسطة اقتصاد قائم على الخدمات كما يتوافق مع طبيعة الاقتصاد اللبناني ومصدر نجاحه وتفوقه، وإلغاء العملة الوطنية (الليرة) كلياً.
خلافا لـ»البدع» الجديدة بتحويل النموذج الاقتصادي من خدماتي إلى منتج عبر «زراعة البلاكين»، فان شروط الانتقال الكامل إلى النظام الدولاري النقدي تفترض ان يكون الاقتصاد خدماتياً وليس إنتاجياً. ذلك أن الدولرة تفقد البضائع المنتجة محلياً قدرتها التنافسية في الاسواق الخارجية. وبحسب منصور فان «الشروط الواجب توفرها في بلد لنجاح نظام الدولرة الشاملة متوافقة مع لبنان حفراً وتنزيلاً. فهو يشترط ألا يكون البلد منتجاً ومصدراً، إنما خدماتي وتتوفر فيه الشروط الثلاثة التالية:
الاول، ان يكون البلد محكوم بأزمات سياسية وجيوسياسية. وأن يكون يعاني من أزمة هوية.
الثاني، أن تكون نسبة الدولرة تتخطى 50 في المئة وهذه النسبة وصلت في لبنان إلى 85 في المئة.
الثالث، أن تشكل نسبة الخدمات من الناتج القومي أكثر من 60 في المئة وهذه النسبة وصلت في العام 2018 إلى 82 في المئة.
الانتقال إلى نظام نقدي يعتمد عملة الدولار بشكل كلي من دون وجود ليرة، المرفوض سياسياً لعدم توافقه مع «تغول» الدولة وتوحش المسيطرين عليها، هو الطريق الوحيد للخروج من الانهيار. والسير بهذا الطريق حتمي، إن لم يكن اليوم فغداً، أو اليوم الذي بعده على الأكيد.