واحد من أبرز أشكال معاناة الاقتصاد يتمثّل في الاتفاقيات التجارية التي عقدها لبنان في حقبة ما بعد الحرب الأهلية. فمع إرساء نموذج للاقتصاد السياسي يقوم على تحويل لبنان إلى مركز لتبادل السلع غير القابلة للتداول بما يتطلبه ذلك من تركيز على استقطاب التدفقات المالية بالعملات الأجنبية وتحويلها إلى عقارات وسلع غير قابلة للتصدير، فتح لبنان حدوده على مصراعيها لمرور البضائع والأفراد والأموال. تمّ ذلك، بموجب اتفاقيات تجارية مع مجموعات من الدول أو بشكل ثنائي، في إطار تمويل استمرارية هذا النموذج. الاتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي ومع البلدان العربية، وفق توصيف «إسكوا» هي في إطار التكامل «المحدود» بينما هناك جيل جديد من الاتفاقيات تكون طبيعته «معمّقة». ما هي الاتفاقيات المحتملة التي يُمكن أن يعتمدها لبنان؟يتحدّث الاقتصادي الهنغاري بيلا بالاسا، في ورقة نشرها البنك الدولي بعنوان «أنواع التكامل الاقتصادي»، عن أنواع التكامل الاقتصادي التي تراوح من تكامل يحرّر الحواجز أمام التجارة فقط (التكامل التجاري)، إلى تحرير تحرّكات عوامل الإنتاج (من رأس مال وعمّال وعوامل الإنتاج الأخرى) أي (تكامل العوامل)، وإلى مواءمة السياسات الاقتصادية بين البلدان (تكامل السياسات)، ثم يأتي أخيراً التوحيد الكامل لهذه السياسات (التكامل التام). لا يوجد في مثل هذه الأنواع «الأفضل» بشكل مجرّد، إنما الأمر يتعلق بما يتلاءم مع حاجات وخيارات كل مجموعة دول. وبحسب تعليق الاقتصادي الكندي ريتشارد ليبسي، على ورقة بالاسا، فقد يكون تكامل التجارة وعوامل الإنتاج الهدف الأكثر أهمية أفضل لاقتصادات السوق مثل الولايات المتحدة وكندا، أما في الاقتصادات المختلطة، مثل اقتصاد فرنسا والمملكة المتحدة، فهناك حاجة إلى قدر كبير من تكامل السياسات من أجل جني فوائد التخصّص الإقليمي. وفي الاقتصادات الاشتراكية، قد يلزم أن يكون التركيز الرئيسي على تكامل السياسات.
في هذا السياق، يمكن القول إن الاتفاقيات التجارية التي أقامها لبنان مع البلدان العربية ومع الاتحاد الأوروبي تعتمد على التكامل الاقتصادي التجاري فقط. وهذا أحد أسباب الأداء التجاري السيّئ للبنان الذي أشارت إليه «إسكوا»، إذ إن ما تفرضه هذه الاتفاقيات هو تدابير «حدودية» تعمل لمصلحة البلدان التي تملك بنى تحتية إنتاجية، وتكون أحادية الجانب إذا كان الطرف الآخر من الاتفاقية طرفاً يفتقر إلى هذه البنى التحتية. بمعنى آخر، هذه الاتفاقيات كانت تصبّ في مصلحة الاتحاد الأوروبي الذي أصبح أكبر مصدَر للواردات إلى لبنان، وفي مصلحة الدول العربية التي ارتفعت حصّتها من الاستيراد اللبناني بشكل كبير. في المقابل، لم يحظَ التصدير اللبناني بفائدة مماثلة من هذه الاتفاقيات. والدليل، هو توسّع العجز التجاري بشكل مستمر في آخر عقدين، حتى بلغ حجمه التراكمي نحو 250 مليار دولار.
لذا، من البديهي الاستنتاج بأن لبنان يحتاج إلى اتفاقيات تكامل اقتصادي أعمق. أي أن تتخطى الاتفاقيات مسألة تسهيل مرور البضائع عبر خفض الرسوم الجمركية والضرائب، وتُصبح أكثر انخراطاً في التوجّهات الاقتصادية للدول. ما يعني أنه يمكن استغلال الميَز التفاضلية للإنتاج في كل بلد. الميزة التفاضلية هي مفهوم يُعزى انتشاره بشكل كبير إلى الاقتصادي البريطاني ديفيد ريكاردو، في كتابه «حول مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب». ببساطة، يمكن أن يتمتع لبنان بميزة تفاضلية للسلعة عندما يتاح إنتاجها بكفاءة عالية (باستخدام موارد أقل) مقارنة بالدول الأخرى، حتى لو كانت الدول الأخرى قادرة على إنتاجها مقابل كلفة أقل (الميزة المطلقة).
وتسمح هذه الكفاءة للبنان، ببيع المنتج بسعر أقل أو بهامش ربح أعلى. وقد تكون أي دولة مجاورة تتمتّع بميزة تفاضلية لسلعة أخرى. هنا يمكن استغلال اتفاقيات التكامل «العميقة»، فيتم توجيه السياسة الاقتصادية في لبنان، نحو دعم السلع ذات الميزة التفاضلية، وتتجه الدول المُتفق معها لدعم سلع ذات ميزة تفاضلية لديها، وبهذا يمكن التوجّه نحو تكامل اقتصادي حقيقي الذي قد يكون تحت أي من «تكامل العوامل»، أو «تكامل السياسات» أو «التكامل التامّ».
وقد لا يكون التكامل ثنائياً، فقط. فقد ورد في نشرة آب الاقتصادية الصادرة عن المركز الاستشاري، فكرة مثلثات النموّ التي تشير إلى «مناطق اقتصادية فرعيّة ما دون وطنية، تشمل أنحاء مدينية وريفية في ثالث بلدان متجاورة أو أكثر، وتتّصف بتنوّع الموارد والخيرات. أُطلق المصطلح لأوّل مرّة من قِبل رئيس الوزراء في سنغافورة عام 1989 في سياق وصف التعاون الاقتصادي الذي كان قائماً بين أقاليم جغرافيّة محدّدة في بلده وأندونيسيا وهونغ كونغ والصين». وتذكر النشرة أن إيجابيات مثلثات النمو تتمثّل بازدياد حجم السوق، وزيادة القيمة المضافة من خلال التكامل في الإنتاج وربط سلاسل القيم بعضها ببعض والاستفادة من وفورات الحجم الكبير في المنافسة وخفض التكاليف. عملياً، هذه المثلثات تنجح بسبب الفروقات الموجودة بين الدول الموجودة فيها، إذ تستفيد الدول من نقاط القوة الموجودة لدى الأطراف الأخرى فيها. فعلى سبيل المثال هناك مثلّث نموّ يشمل مناطق في سنغافورة وإندونيسيا وماليزيا، وسبب نشوئه مرتبط بوجود صناعات كثيفة العمالة في الأولى، وقوّة عمل فائضة وشابّة في الثانية، وموارد مائية وفيرة في الثالثة.
هكذا، يتوجب على لبنان إعادة النظر في كل ما سبق الأزمة، إذ إن أحد أهم أسباب تدنّي الأداء التجاري اللبناني، الذي كبّد الاقتصاد خسارات كبيرة بالعملات الصعبة، هو نظام التجارة المفتوحة الأحادي الجانب، الذي اتّبعته الحكومة اللبنانية في منتصف التسعينيات. ولم يكن هذا النظام حالة فريدة، بل كان جزءاً من نهج الحكومة اللبنانية، بالتعاون مع مصرف لبنان، في ذلك الوقت، وهذا النهج أنتج تثبيت سعر الصرف الذي سهّل الاستيراد وضخّم قيمة الليرة لتسهيل الاستهلاك وعرقلة الإنتاج والتصدير.