موازنة 2024 وتعديلاتها منفصلة عن أي خطّة للتعافي والإصلاحات البنيوية

إن قرار إقرار موازنة 2024 يأتي أولاً وقبل كلّ شيء مدفوعاً بضرورة توفير الغطاء القانوني للنفقات التي تتكبّدها الدولة، لا سيّما أن العمل بموجب القاعدة الاثنتي عشرية لأجل غير مُسمّى – خلافاً لروح الدستور ونصّه – لم يعد مُمكناً بسبب الانهيار الكبير في قيمة الليرة اللبنانية. وفي ما يلي بعض الملاحظات التي أعدّت من الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين ومنظمة كلنا إرادة ومبادرة سياسات الغد والمفكرة القانونية:

تقليص حجم الدولة

يكرّس مشروع موازنة 2024 تقليص حجم الدولة. مع تقليص الموازنة إلى 3.3 مليارات دولار، وهو ما يساوي أقل من 20% من حجمها في العام 2019 (17 مليار دولار)، انخفض الإنفاق العام المُتاح عبر المؤسّسات العامة إلى حدود دنيا. يعدّ الانهيار المالي أكثر وضوحاً من الانهيار الاقتصادي الذي انكمش بنسبة 40% بين عامي 2019 و2023.

– يقلّص مشروع الموازنة دور الدولة إلى حدٍ كبير على الرغم من الأزمة غير المسبوقة التي تمرّ فيها البلاد. ففي أوقات الأزمة يفترض أن يكون الاستثمار العام الهادف والموجّه (نحو البنية التحتية والحماية الاجتماعية وإصلاح الإدارة) السبيل الوحيد لتحفيز الاستثمارات الأساسية في القطاع الخاص وتعزيز النموّ والتماسك الاجتماعي.

– أعِدّت الموازنة قبل 7 تشرين الأول الماضي، ولم تُجرَ أي تعديلات عليها من حينها للحظ التأثيرات الناجمة عن الحرب. وهذا يؤكّد الانفصال العضوي لهذا الفعل المحاسبي عن الواقع، وعدم انعكاس السياسات العامّة المواكبة له في مشروع الموازنة من أجل معالجة التحدّيات التي تواجهها البلاد.

– الجزء الأكبر من الإنفاق العام المرصود في الموازنة هو عبارة عن نفقات جارية (86%)، فيما تشكّل النفقات الاستثمارية نحو 9% فقط. تمثّل أجور ورواتب موظّفي القطاع العام نصف نفقات الموازنة، وهي خضعت لمراجعتين في العامين الماضيين من أجل تكييفها مع التضخّم. مع ذلك لم تجارِ التضخّم الحاصل، ولم تقرّ وفق آليّة تضمن حقوق الموظّفين، ولا تبعاً لمراجعة شاملة لمهامهم كجزء من إصلاح الإدارة العامّة يضمن تقديم الخدمات العامة الأساسية. إصلاح القطاع العام هو ضرورة لاستعادة الثقة بالحكومة. لن تتمكّن سوى إدارة رشيقة وفعّالة وسليمة مالياً من تحصيل الضرائب وتقديم الخدمات العامة واعتماد سياسات عامة مناسبة.

لماذا إغفال الإصلاحات؟

الموازنة المُقترحة منفصلة عن أي خطّة للتعافي أو أي من الإصلاحات البنيوية التي تمّ الاتفاق عليها مع صندوق النقد الدولي في الاتفاقية المعقودة على مستوى الموظّفين في 7 نيسان 2022، والتي لم يتم تنفيذ أي منها.

– لا يعالج مشروع الموازنة عبء الديون المُتراكمة، ولا يعد جزءاً من أي خطّة لإعادة هيكلة الدين العام، وكأنه لم يجرِ التخلّف عن دفع الديون في آذار 2020، أو أن الاقتصاد يمكن أن يتعافى من دون إعادة هيكلة هذه الديون.

– لا يتطرّق مشروع الموازنة إلى العملية المحاسبية الفاضحة التي قام بها مصرف لبنان، وأدّت إلى تحميل الخزينة العامة ديناً إضافياً بقيمة 58.75 مليار دولار، وهو عبء يجب إلغاؤه نهائياً.

– إن التوازن المُحقّق في المالية العامّة ليس أكثر من عملية تجميلية، فهو يعدّل النفقات لتتساوى مع الإيرادات الفعلية المُحصّلة، التي أعلن بداية أنها بلغت نحو 278 تريليون ليرة لبنانية، وفي كانون الثاني الحالي، أعادت وزارة المالية احتسابها وبلغت نحو 313 تريليون ليرة لبنانية (من 3.3 إلى 3.5 مليارات دولار سنوياً). لكن النفقات المرصودة في الموازنة بقيمة 295 تريليون ليرة لبنانية (3.3 مليارات دولار) لا تشمل جميع التزامات الدولة بما في ذلك المتأخّرات.

– يبدو من المستحيل حالياً تكوين صورة كاملة عن النفقات العامّة. يتمّ تمويل بعض الرواتب بشكل مباشر من جهات مانحة دولية، وخصوصاً رواتب الجيش وجزءاً من رواتب الطاقم التعليمي. وتحوّل الرواتب بالعملات الأجنبية مباشرة إلى حساباتهم، وأحياناً من دون المرور عبر المصرف المركزي. أيضاً، لا تتضمّن الموازنة المُقترحة بعض القروض الممنوحة للدولة اللبنانية، مثل قرض ESSN الذي حصلت عليه من البنك الدولي. عدا أن مخطّطات تمويل شراء الفيول لصالح مؤسّسة كهرباء لبنان تفتقد الشفافية بسبب القواعد المحاسبية التي ترعى عمل المؤسّسات العامة.

نظام ضريبيّ تراجعي

تعمل الموازنة على إدامة نظام ضريبي تراجعي، بينما يهدّد الاقتصاد النقدي المهيمن والحرب المستمرّة فعالية تحصيل الإيرادات.

– لا يمكن أن تكون هناك سياسة اقتصادية مستدامة من دون زيادة الضرائب. لكن تحصيل الضرائب يعتمد على بناء الثقة بين دافعي الضرائب والفاعلين الاقتصاديين والدولة. لا تتناول موازنة العام 2024 أي شيء من هذا القبيل، لا بل تقوم بالعكس.

– لا يزال العبء الضريبي يقع بشكل غير متناسب على الفئات نفسها أي الأكثر فقراً والأكثر التزاماً بالقانون، في حين تجري مكافأة الأثرياء وأصحاب الريوع من خلال المعاملة التفضيلية للثروة والإعفاءات و/أو التنزيلات على الضرائب العقارية والرأسمالية.

– تأتي غالبية إيرادات الموازنة من الضرائب غير المباشرة سهلة التحصيل والتي تعتبر تنازلية (ضرائب الاستهلاك والرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة التي يتمّ تحصيلها غالباً عند نقطة دخول السلع، وكذلك من الرسوم على المعاملات الرسمية والخدمات التي يضطر إليها الناس) في حين جرى تخفيض ضرائب الدخل إلى أقل من 20% من الإيرادات.

– في حين أن الإعفاءات المنصوص عليها في المشروع تفيد بعض دافعي الضرائب الذين نجحوا بالضغط على لجنة المال والموازنة، لا تزال المُخصّصات الاجتماعية أقل من مستوياتها في العام 2019. ومع أن لجنة المال والموازنة رفعت الموارد المخصّصة للوزارات الخدماتية بنسبة 25% بالمقارنة مع مشروع القانون المقدّم من مجلس الوزراء لتصل إلى 747 مليون دولار، إلا أنها لا تشكل سوى 40% من مستواها قبل الأزمة في العام 2019. ونظراً إلى الارتفاع الكبير في عدد الأسر الضعيفة بالمقارنة مع ما كانت عليه قبل خمس سنوات، فإن الدولة تفتقر إلى القدرة المالية اللازمة لتوفير المخصصات والتقديمات الاجتماعية الكافية.

5. المساهمة الأساسية لهذه الموازنة تكمن في تخفيض التشوّهات المرتبطة بتعدّد أسعار الصرف من خلال الإشارة إلى سعر صرف واحد «يحدّده مصرف لبنان» عند تطبيق الضرائب والرسوم المقوّمة بالدولار. إن تعديل قرار العام 2023 الذي حدّد سعر الصرف عند 15 ألف ليرة للدولار، سيؤدّي إلى الحدّ من التشوّهات الناجمة عن التفاوت بين سعر الصرف في السوق وسعر الصرف الرسمي المُحدّد مسبقاً، كما سيجنّب الخزينة العامة خسائر فادحة في الإيرادات الضريبية، قدّرها صندوق النقد الدولي بـ 3.6% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023، قبل التعديلات التي أدخلت في أيار 2023 وبدأت تؤتي ثمارها في العام الماضي.

الضريبة على القيمة المضافة

إن الحدّ الأدنى للدخل الذي يتوجّب على الشركة أو الفرد أن يدفعا الضريبة على القيمة المضافة متى تمّ تجاوزه، تم تخفيضه بشكل ملحوظ عمّا كان عليه قبل الانهيار، من نحو 67 ألف دولار إلى 33 ألف فقط (أكثر من 3 مليارات ليرة لبنانية وفق سعر صرف 89,500 ليرة لبنانية للدولار). وعلى الرغم من أن العتبة المعدّلة هي أعلى من تلك المنصوص عنها في المسوّدة الأولى (2 مليار ليرة)، لا تزال المشكلات العملانية التي قد تترتب عنها مع الإدارة الضريبية قائمة، وهو ما قد يفسح المجال أمام المزيد من التهرّب الضريبي وتغذية الاقتصاد النقدي. وفي المقابل، قد يؤثر تنفيذ هذا التدبير على تنافسية الشركات الصغيرة والمتوسطة.

إعفاء ضريبي غير مبرّر

تضمّنت مشاريع الموازنات السابقة مواد تسمح للشركات بإعادة تقييم أصولها الثابتة في مقابل الاستفادة من تخفيضات وإعفاءات ضريبية كبيرة. وقد أثارت هذه المواد العديد من الاعتراضات مراراً وتكراراً. الآن، يعيد مشروع موازنة 2024 إحياء هذه المواد ويحوّلها إلى ممارسة منتظمة ودورية، عدا أنه يوسّع نطاقها بما يتجاوز الأصول الثابتة لتشمل العقارات والمخزون. وهذه هدية غير مبرّرة للشركات وليس لها مقابل.

تأجير الممتلكات العامة

تسمح هذه المادة 59 بتأجير أملاك الدولة الخاصة لفترات تصل إلى 18 عاماً. في ظلّ غياب أي ضمانة أو إجراء رقابي على معدّلات الإيجار، تمهّد هذه المادة الطريق لاستغلال الأملاك العامة. وفي حين أن المادة تذكر ضرورة الامتثال لقانون الشراء العام، إلا أن هذا القانون لا يقدّم أي ضمانة جدّية في هذا الإطار. تعدّ هذه المادة مثالاً فاضحاً على «فرسان الموازنة» التي لا ينبغي تضمينها في الموازنة.

إلغاء مبطّن لضريبة

جرى تمرير المادة 88 في مشروع الموازنة، وهي تقلّل بشكل ملحوظ (من15% إلى 1%) معدّل الضريبة على الأرباح الناجمة عن المبيعات العقارية من قبل الأفراد، حتى 31 كانون الأول 2026. أدخلت هذه الضريبة بموجب القانون رقم 64 في 20 تشرين الأول 2017 وعدت من الإصلاحات الضريبية المهمة في حينها، كونها تعزّز العدالة الضريبية وتحارب مخطّطات التهرّب الضريبي الذي يحرم الخزينة من موارد مهمة.

تشجيع التهرّب الضريبي

بموجب المادة 89 من مشروع قانون الموازنة، يتم تطبيق تسوية تعادل نسبة 50% على غرامات التحقّق والتحصيل المتوجّبة والناجمة من عدم تسديد ضريبة الدخل وضريبة القيمة المضافة، والتي تمّ الاعتراض عليها أمام لجنة الاعتراضات ولم يبتّ بها بتاريخ صدور هذا القانون. إن تمرير هذه المادة يتعارض بشكل جوهري مع قرار المجلس الدستوري رقم 2/2018 المتعلق بقانون موازنة 2018، والذي أبطل بنداً مماثلاً بسبب انتهاكه مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية والعدالة الضريبية. إن الاستمرار في محاولة تمرير مواد مماثلة والتعبير صراحة عن نية القيام بارتكابات مشابهة هو أمر مثير للقلق، ولا سيما في الظروف الراهنة وضرورة رفد الخزينة بإيرادات إضافية.

يدسّ نص المادة 90 في كل موازنة تقريباً، وهي تقضي بتخفيض، وأحياناً إلغاء، الغرامات والعقوبات المترتّبة عن عدم دفع الضرائب والرسوم. تبعث هذه المادة إشارات سيئة للغاية فهي تضرب مبدأ العدالة والمواطنية والالتزام الضريبي وتشجّع على التهرّب الضريبي، فهي عدا أنها تعفي المتهرّبين من دفع الضريبة من الغرامات المترتبة عليهم، أيضاً تدفع الملتزمين منهم إلى التوقف عن الامتثال طالما أن قوانين الموازنات ستعفيهم من أي غرامة.

مصدرنداء الوطن
المادة السابقة“الودائع غير المؤهلة” بدعةُ المصرفيين لسلب الحقوق
المقالة القادمةالموازنة في يومها الثاني: هدوء ما قبل التصويت