نشرت جمعيّة المصارف أخيرًا الميزانيّة المجمّعة التي تعكس وضعيّة القطاع بأسره، كما باتت في نهاية كانون الثاني الماضي، أي بعد احتساب الموجودات والإلتزامات بسعر الصرف الفعلي، وفقًا لتعميم مصرف لبنان 167. مع الإشارة إلى أنّ المصارف استمرّت حتّى نهاية الشهر السابق بالتصريح عن الميزانيّات وفقًا لسعر الصرف الرسمي السابق، أي 15 ألف ليرة للدولار، وهو ما أخفى الوضعيّة الماليّة الحقيقيّة لمعظم بنود الميزانيّة المجمّعة. هكذا، تبدّلت أحجام بنود الميزانيّة بشكل جذري هذه السنة، بما بات يعكس الواقع الفعلي للقطاع وفقًا لقيمة الموجودات والإلتزامات الحقيقيّة.
على أي حال، من المهم الإشارة إلى أنّ “المدن” حلّلت في مقال سابق التبدّلات التي طرأت على بعض بنود الميزانيّة في شهر كانون الثاني، كما عكستها العديد من التقارير المصرفيّة المتداولة. غير أنّ قراءة الميزانيّة المجمّعة الكاملة، كما تم نشرها على موقع جمعيّة المصارف، بات يسمح لنا اليوم بتحليل جميع التغيّرات التي طرأت على الميزانيّة، وخصوصًا تلك التي أثّرت على حجم رساميل المصارف وأموالها الخاصّة، أي مساهمات أصحاب المصارف. وهذا تحديدًا ما يعطي صورة أوضح عن مستقبل القطاع وحاجاته التمويليّة في المستقبل.
الهبوط القاسي في حجم الأموال الخاصّة
من المهم الإشارة أولًا إلى أنّ الأموال الخاصّة في المصارف، أي حقوق المساهمين وأصحاب المصارف، لا تمثّل قيمة واحدة متجانسة من حيث العملة والشكل القانوني. فإلى جانب الأسهم العاديّة، ذات القيمة المقوّمة بالليرة، أصدرت المصارف في الماضي أسهماً تفضيليّة تتمتّع بامتيازات خاصّة، كما ضخ المساهمون “مقدّمات نقديّة” حسب تعاميم مصرف لبنان، بالدولار الأميركي. وعلى هذا النحو، من الطبيعي أن تنخفض قيمة الأموال الخاصّة المقوّمة بالليرة، مع رفع سعر الصرف المعتمد لاحتساب الميزانيّة، مقابل احتفاظ سائر أصناف الأموال الخاصّة -المقوّمة بالدولار- بقيمتها.
وقبل اعتماد سعر الصرف الواقعي لإعداد الميزانيّة، كان من المستحيل فهم القيمة الفعليّة للأموال الخاصّة، من الأرقام المصرّح عنها. فالرقم المعلن كان يجمع ما بين الأموال الخاصّة والمساهمات بالليرة والدولار معًا، وباعتماد سعر صرف غير واقعي لاحتساب القيمة الإجماليّة بالليرة. بهذا الشكل، لم يكن بإمكان القارئ اعتماد الرقم المصرّح عنه كرقم كواقعي، كما لم يكن بالإمكان فرز الأموال الخاصّة بحسب العملة لإعادة احتسابها وفقًا لسعر الصرف الحقيقي.
في الخلاصة، وبعد إعداد الميزانيّة وفقًا لسعر الصرف الحقيقي، بات الرقم واضحًا: قيمة الأموال الخاصّة في المصارف اللبناني لا توازي اليوم أكثر من 3.49 مليار دولار، كما تشير الميزانيّة المجمّعة. مع العلم أنّ قيمة هذا البند، قبل اعتماد سعر الصرف الواقعي، كانت توازي نحو 5.09 مليار دولار، بحسب سعر الصرف الرسمي القديم (أي 15 ألف ليرة للدولار الواحد)، أو 76 ألف مليار ليرة لبنانيّة. وبصورة أوضح، يكون المساهمون في المصارف قد خسروا قيمة إجماليّة تقارب 1.6 مليار دولار، أو 31% من قيمة الأموال الخاصّة، بعد اعتماد سعر الصرف الواقعي.
الأموال الخاصّة مقابل الخسائر
في مقابل هذه الأموال الخاصّة، الزهيدة القيمة، ما زالت المصارف تمتلك نحو 81.26 مليار دولار من التوظيفات لدى مصرف لبنان، بالإضافة إلى ما يقارب 2.19 مليار دولار من التوظيفات في سندات اليوروبوند. وحتّى هذه اللحظة، لم تتم معالجة الخسائر الفعليّة التي ستترتّب على القطاع جرّاء هذه الاستثمارات غير الموفّقة، التي تمثّل حاليًا أكثر من 80% من إجمالي الموجودات المصرفيّة.
لهذا السبب، من الواضح أن قيمة الرساميل الموجودة لا تسمح حاليًا بامتصاص ولو جزء بسيط من الخسائر المترتبة على توظيفات المصارف في مصرف لبنان أو الدولة اللبنانيّة. وهذا ما كان يفترض أن يقود الدولة لإجراء عمليّة إعادة هيكلة شاملة للقطاع، تبدأ بشطب قيمة الرساميل المتبقية، وتنتهي باستقطاب مساهمين جدد، مع الأخذ بالاعتبار حجم الموجودات المتبقية في مصرف لبنان والمصارف التجاريّة معًا.
غير أنّ تمسّك المصرفيين بقيمة الرساميل المتبقية، ورفضهم لإعادة الهيكلة، لم يعد يرتبط بقيمتها الإسميّة المذكورة في الميزانيّة، والتي تشكّل –كما ذكرنا- جزءاً بسيطاً من الخسائر. هذا التمسّك ينطلق من سيطرتهم على المؤسسات المصرفيّة، وعلى ملكيّتها وقرارها، وهو ما سيسمح بإعادة تعويم قيمة استثماراتهم بعد تحول جزء كبير من الودائع إلى ديون على الدولة اللبنانيّة، كما تطمح جمعيّة المصارف ومجموعة واسعة من القوى السياسيّة اللبنانيّة (وهذا هو البديل الفعلي عن إعادة الهيكلة الشاملة والإصلاحات الماليّة والتفاهم مع صندوق النقد).
هبوط حجم الموجودات
حجم الموجودات الإجمالي انخفض، بعد اعتماد سعر الصرف الواقعي، من 115.25 مليار دولار أميركي في نهاية كانون الأوّل، إلى 104.64 مليار دولار في نهاية كانون الثاني. ما يعني أن المصارف خسرت -من موجوداتها- قيمة إجماليّة تقارب 10.61 مليار دولار. ومن المعلوم طبعًا أن هذه الخسارة تمثّل قيمة دفتريّة ومحاسبيّة، ولا تعبّر عن أي تدفّقات ماليّة حقيقيّة ذات تأثير على سيولة القطاع. إلا أنّ أهميّة هذا الرقم تتمثّل في كونه تعبيرًا واضحًا عن كلفة اعتماد سعر الصرف الفعلي لإعداد الميزانيّة، أي عن كلفة تصحيح الأرقام والتعبير عنها بشكل واقعي، بعد إخفاء جزء كبير من الخسائر باعتماد أسعار صرف غير واقعيّة لإعداد الميزانيّة.
بصورة أوضح: هذا الانخفاض في قيمة الموجودات، هو الانتفاخ الذي تضمّنته الميزانيّة في السابق، أو الخسائر غير المصرّح عنها، باعتماد أسعار صرف غير واقعيّة، لإخفاء الفارق ما بين الموجودات والمطلوبات بالعملة الصعبة. هذا الفارق، الذي يُعبّر عنه بفجوة العملات الأجنبيّة، يمثّل جزءًا من أزمة السيولة التي تضرب القطاع منذ نهاية العام 2019. الملفت للنظر، هو أنّ جميع ما تنشره جمعيّة المصارف اليوم، يؤكّد المقاربات التي اعتمدتها شركة لازارد عام 2020، لاحتساب خسائر القطاع، والتي انقلبت عليها الجمعيّة ومصرف لبنان ولجنة المال والموازنة، باعتماد نظريّات محاسبيّة غير مألوفة (إن لم نقل مخادعة).
في خلاصة الأمر، ستكون الميزانيّات المصرفيّة من الآن وصاعدًا أقرب للفهم والحقيقة، على الأقل من ناحية سعر الصرف المعتمد لإعدادها، وهذا ما يسمح بتجاوز الأحجيات والتشوهات التي فرضها اعتماد أسعار صرف وهميّة لإعداد الميزانيّة. لكن هذه الخطوة تبقى منقوصة، من دون بدء آليّات الاعتراف بخسائر القطاع المتراكمة في ميزانيّات المصارف والمصرف المركزي، والتي لم يتم معالجتها حتّى هذه اللحظة. ومعظم هذه الخسائر، مازالت مسجّلة كموجودات في ميزانيّة المصرف المركزي، بانتظار تحقيق حلم جمعيّة المصارف: تحويلها إلى دين على المال العام والشعب اللبناني.