تحارُ السلطة في كيفية إغراء موظفي السجلات العقارية في جبل لبنان للعودة إلى العمل. هؤلاء لا يريدون «الدولة» بقدر ما تريدهم، ويرغبون في تلقين السلطة وأجهزتها الأمنية وجسمها القضائي درساً بعدم الاقتراب منهم مرة أخرى
أكثر من عامٍ مضى على توقّف أمانات السجلّات العقارية عن العمل، في كل من بعبدا والشوف وعاليه والمتن وكسروان وجبيل، حيث يعمل 124 موظفاً أصيلاً، بعد حملة توقيفات نفّذتها شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي، طاولت حوالي ثلثي موظفي العقاريات بتهم تقاضي رشوة وإثراء غير مشروع. أدّى ذلك إلى تواري 68 موظفاً عن الأنظار، وصدرت بحق 14 منهم مذكرات غيابية. فيما خضع 54 موظفاً للتحقيق القضائي، وصدر قرار ظني قضى بإخلاء سبيلهم لقاء كفالاتٍ مالية، ومنع مزاولة العمل لأربعة أشهر، وسلك الملف مساره القضائي نحو محكمة الجنايات للبتّ به لجهة تثبيت الجرم على المرتكب أو تبرئة متهمين.مع انقضاء الأشهر الأربعة في أواخر تموز، جدّدت وزارة المالية محاولاتها لإعادة ضخّ الحياة في السجلّات التي تُعتبر مورداً مهماً للخزينة، نظراً إلى ما ترفدها به من مبالغ سنوية قُدّرت عام 2017 بـ 700 مليون دولار، وبلغت عام 2022 نحو 1500 مليار ليرة، وسط تقديرات بأنه مع اعتماد دولار «صيرفة» لتخمين العقارات، لن يقلّ مردود الدوائر العقارية في حال عودة العمل إليها عن 300 مليون دولار سنوياً.
جهود إعادة فتح الأبواب، اصطدمت بعملية مساومة طرحها الموظفون على رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير المالية يوسف الخليل، إذ طلبوا ضماناتٍ بعدم توقيفهم مجدداً، ما يعني تدخّلاً سياسياً لدى وزارة العدل لإنهاء الملف القضائي. كما طالبوا باسترداد الكفالات التي دفعوها عند إخلاء سبيلهم، علماً أن القانون لا يسمح بذلك إلا في حال قضت محكمة الجنايات ببراءة المتهم. ناورت السلطة، ومن ضمن الخيارات التي درستها «المالية» حينها، الاستعانة بموظفين من السجلّات العقارية في المحافظات الأخرى، والاتفاق معهم على عملٍ إضافي «Over Time» في سجلّات جبل لبنان، مقابل تقاضيهم بدل أتعاب ونقل. إلا أنّ هذا الطرح لم يسلك طريقه إلى التنفيذ. وبعد انقضاء أربعة أشهرٍ، جدّدت السلطة محاولاتها، وهذه المرّة من خلال إيجاد مخرجٍ لإعادة موظفي سجلات جبل لبنان أنفسهم إلى أعمالهم، عوضاً عن استبدالهم بآخرين.
وبعد جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، الأربعاء الفائت، بدأت «المالية» تتحدّث عن أن الملف يسلك طريق الحل، تبعاً لقرار مجلس الوزراء، الذي تبنى رأي مجلس الخدمة المدنية، حول الأوضاع القانونية للموظفين. إذ اعتبر مجلس الخدمة أنّ من لم يلتحق بعمله من الموظفين المُخلى سبيلهم، أو المتوارين عن الأنظار ممن لم تصدر بحقهم مذكرات توقيف، لا تُطبق عليه المادة 65 من نظام الموظفين، والتي تحظر على الموظف الانقطاع عن العمل لأكثر من 15 يوماً متواصلاً دون مسوّغ جدي، وإلا يعتبر بحكم المستقلين. إنّما تطبق المادة، في حال ثبت أن «الإدارة قد مكنتهم من مباشرة العمل وأبلغتهم بوجوب الحضور، ولم يفعلوا ضمن مهلة 15 يوماً».
هذه «الحركة»، هي لزوم ما لا يلزم، وحرف الأمور عن حقيقة المشكلة، لسببين: أولاً، أنّ محادثات جرت قبل أشهر بين «المالية» والحكومة والموظفين لحثّهم على العودة إلى العمل، يعني أنهم تبلغوا بوجوب الالتحاق بمراكزهم، وفي حينها كانت السلطة مستعدّة لإعادتهم من دون الحاجة إلى رأي قانوني حول أوضاعهم القانونية، لجهة اعتبارهم مستقيلين أو لا. ثانياً، ثبوت أن العوائق أمام عودة العمل تتمثّل في مُطالبة الموظفين بحلّ ملفهم القضائي بالدرجة الأولى، والتعهّد بعدم التعرّض لهم. فهل سينالون مرادهم؟