موقف صندوق النقد لم يتبدّل: المصارف غارقة في الوهم

على مدى الأيّام القليلة الماضية، حفلت الأوساط السياسيّة بكلام غامض عن تغيير ما في موقف صندوق النقد إزاء الأزمة الماليّة اللبنانيّة. وعلى نحوٍ أكثر دقّة، كان هذا الكلام يلمّح إلى حصول ليونة ما في شروط الصندوق، بخصوص الخطّة التي يفترض أن يعتمدها لبنان، والتي سيتم على أساسها توقيع الاتفاق النهائي معه. وجميع هذه التسريبات، ترافقت مع ضغوط داخل الحكومة لإقحام تعديلات معيّنة على مسودّة مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف، بما يجعلها أقرب إلى رؤية جمعيّة المصارف، وأبعد من الشروط الأساسيّة التي وضعها الصندوق سابقًا. بهذا المعنى، أصبح الحديث عن ليونة الصندوق، مجرّد ضغط لتجاهل الإصلاحات التي يطلبها، في موضوع إعادة الهيكلة.

في هذا المشهد بالذات، جاءت مقالة الأمين العام لجمعيّة المصارف، فادي خلف، الذي بات يحدّد في افتتاحيّة تقرير الجمعيّة الشهري السقف السياسي لمطالب الجمعيّة. وتحت عنوان “المركزي بين الحاضر والتحديات”، احتفى خلف بالتحوّلات الحاصلة في مصرف لبنان، والتي توحي بأنّ المصارف حقّقت المُراد من قبلها تحت إدارة “القيادة الجديدة” في المصرف. ما استعرضه خلف في مقالته، يوحي بأن إدارة الأزمة باتت تسير وفق النهج الذي أرادته جمعيّة المصارف منذ البداية، وهو ما يتكامل طبعًا مع مساعي تعديل مشروع إعادة الهيكلة في الحكومة، وفقًا لتمنيّات ورؤية الجمعيّة.

لا تتوهموا.. الصندوق لم يتنازل!

بخلاف كل ما يتم تداوله، لم يبدّل الصندوق حتّى هذه اللحظة مقاربته للأزمة اللبنانيّة، ولم يغيّر الشروط التي وضعها لقبول لبنان ضمن برنامج تمويلي. والمعايير نفسها التي وضعها الصندوق لقبول خطّة التعافي المالي، المقترحة من قبل الحكومة اللبنانيّة، ما زالت سارية اليوم، تمامًا كما كانت سارية في نيسان 2022، من دون أي تغيير يُذكر.

وهذه المعايير، ليست مجرّد تفاصيل تتغيّر بتغيير الخطّة أو مشروع إعادة الهيكلة، كما يشتهي بعض الساسة والمصرفيين. بل هي عبارة بنود منصوص عنها بوضوح شديد في تفاهم مبدئي موقّع بين بعثة الصندوق والسلطات اللبنانيّة، منذ العام 2022، ولا يمكن المضي بأي خطّة مستقبليّة -ضمن إطار برنامج تمويلي مع الصندوق- من دون الالتزام بهذه البنود.

على هذا الأساس، كل ما يُشاع ليس سوى وهم وسراب، من قبل بعض الساعين للتملّص من الإصلاحات، التي يحتاجها لبنان للمضي في طريق التعافي المالي، قبل أن تكون شروطًا متفق عليها مع صندوق النقد. وفي جميع الحالات، من المستبعد أن يورّط الصندوق مصداقيّته باتفاق نهائي مع لبنان، إذا كانت الحكومة ستمضي بأفكار كتلك التي تطرحها جمعيّة المصارف.

فأي خطّة ستقوم على هذا النوع من الأفكار، ستولد ميتة، ولن تحقق أكثر من الذهاب نحو عقد ضائع اقتصاديًا وماليًا. وبذلك، وتمامًا كما كان الحال منذ العام 2019، على لبنان أن يختار بين طريقين لا ثالث لهما: حماية المصالح السياسيّة والمصرفيّة المحليّة، أو السير بخطّة التعافي الجديّة.

شروط الصندوق معاكسة لرؤية المصارف

وللتذكير، نصّ التفاهم المبدئي المعقود مع صندوق النقد في نيسان 2022 على مبدأ واضح جدًا بخصوص مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي: الإقرار مقدمًا بالخسائر الكبيرة التي تكبدها القطاع ومعالجتها، والحد من الاستعانة بالموارد العامّة (لمعالجة هذه الخسائر). وعلى هذا البند أن يرتكز على مسار آخر اشترطه التفاهم أيضًا: الشروع في تقييم أكبر 14 مصرفًا، عبر الاستعانة بشركة تدقيق أجنبيّة دوليّة.

من هذه الزاوية، ثمّة فرق شاسع بين شروط الصندوق، ورؤية جمعيّة المصارف وحلفائها داخل الحكومة. ورؤية الجمعيّة تقوم -كما هو معلوم- على تحميل الدولة “مسؤوليّة” الخسائر الناتجة عن علاقة المصارف مع مصرف لبنان، أي تحويل الودائع غير القابلة للسداد إلى ديون عامّة، شأنها شأن سندات اليوروبوند التي امتنع لبنان عن سدادها منذ العام 2020. وهذا ما سيحوّل الودائع المصرفيّة إلى مقبرة جماعيّة، في صندوق ما، فيما ستنوء الدولة بديون تمنع نهوضها أو نهوض الاقتصاد والمجتمع لعقود من الزمن.

تعديل مشروع إعادة الهيكلة

لم تتضح بعد تفاصيل التعديلات التي يضغط البعض داخل الحكومة لإقحامها، في إطار مشروع إعادة الهيكلة، قبل إعادة طرحه على طاولة مجلس الوزراء. لكنّ الأكيد هو أن فرملة النقاش حول المشروع في السابق، جاءت بفعل تحفظات جمعيّة المصارف والوزراء الذين يتبنّون طرحها، فيما تأتي الضغوط الحاليّة بالاتجاه نفسه. غير أن المشكلة الأساسيّة تكمن في أنّ المسودّة السابقة ذهبت إلى أبعد ما يمكن في الحرص على الحسابات والتوازنات الداخليّة اللبنانيّة، من دون مخالفة شروط الاتفاق المبدئي مع الصندوق.

ولهذا السبب، من الأكيد أن أي تعديل إضافي مقترح على تلك المسودّة، بما يقرّبها من رؤية جمعيّة المصارف، وتحديدًا في موضوع توزيع الخسائر، سيعني الخروج من نطاق الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد. أو بعبارة أخرى: لن تكون تلك المسودّة منسجمة مع شروط الصندوق، التي يفترض أن يدخل على أساسها لبنان البرنامج التمويلي الموعود.

وهذا ما يدفع البعض إلى التشكيك بإمكانيّة إقرار هذه التعديلات في الحكومة، طالما أنّها تخالف بشكل صريح الخطّة المتفق عليها مع الصندوق. إذ أن أي مشروع لإعادة الهيكلة، من دون اتفاق مع صندوق النقد الدولي، لن يقدّم أي قيمة مضافة على مستوى مسار التعافي المالي.

ومن المهم التذكير هنا بأن تحفّظات جمعيّة المصارف، التي لخصتها الجمعيّة في مذكّرة مكتوبة، تمحورت حول رفض استعادة فائض الأرباح المحقّقة من قبل المصرفيين خلال فترة الهندسات الماليّة. كما رفضت الجمعيّة فكرة شطب جميع أسهم أصحاب المصارف، قبل الانتقال إلى تحميل أي خسارة للمودعين. وبشكل عام، ظلّت الجمعيّة تركّز على مبدأ “مسؤوليّة الدولة”، أي زيادة نسبة الخسائر التي يفترض أن تتحمّلها الأموال العموميّة.

المصارف غارقة في الوهم

مقالة الأمين العام لجمعيّة المصارف فادي خلف، في افتتاحيّة تقرير الجمعيّة الشهري، مثّلت دلالة واضحة على الأوهام التي تغرق فيها جمعيّة المصارف حاليًا.

في تلك المقالة، كان خلف متفائلًا ببعض الخطوات التي قامت بها “القيادة الجديدة” لمصرف لبنان، وتحديدًا بما يخص “إقرار المصرف المركزي بمبدأ الأزمة النظامية”، على اعتبار أنّ “الدولة هي المسؤول الأول عن الأزمة وقد بددت الأموال وعليها مسؤولية إعادتها”. كما شجّع خلف على خطوة “تصحيح ميزانية مصرف لبنان وتوضيح جزء مهم من بنودها”.

ببساطة، ما يتحدّث عنه خلف -بوصفه تطوّرات إيجابيّة- هو أعمال التزوير التي طرأت على ميزانيّة مصرف لبنان، والتي أفضت إلى زيادة ديون جديدة على الدولة اللبنانيّة لمصلحة مصرف لبنان. وهذه الأعمال، تمثّل بنظر جمعيّة المصارف الخطوة الأولى باتجاه تحميل الدولة الجزء الأساسي من خسائر القطاع المصرفي، تمامًا كما تحاول أن تفعل الجمعيّة من خلال التعديلات المقترحة على مشروع إعادة هيكلة المصارف في الحكومة. بهذا الشكل، تكون الجمعيّة قد تملّصت من القيام بأي إعادة هيكلة فعليّة أو حقيقيّة، في مقابل الاكتفاء برمي خسائرها على كاهل الدولة، أي المال العام والمجتمع.

من الواضح أن جمعيّة المصارف تمكّنت بالفعل من كسب بعض النقاط لمصلحتها، من خلال خطوات “القيادة الجديدة” في مصرف لبنان. كما تمكنت من حشد الدعم السياسي لمصلحتها داخل الحكومة، عبر عرقلة إقرار مشروع إعادة الهيكلة. وهذا ما يمكن اعتباره مكاسب مهمّة، لمصلحة الجمعيّة.

لكنّ جميع هذه التطوّرات لا تعني اقتراب الجمعيّة من تمرير مشروعها في القريب العاجل، طالما أن الجميع -داخل مصرف لبنان والحكومة- يعلم خطورة السير بعمليّة إعادة هيكلة شكليّة لا تتناسب مع شروط صندوق النقد. بل وأكثر من ذلك، يدرك الجميع أيضًا أن السير بمشروع من هذا النوع، من دون مصادقة الصندوق على خطّة التعافي، سيحول دون الوصول إلى تفاهم مع حملة سندات الدين السيادي، لإعادة هيكلة الديون العامّة. وفي جميع الحالات، تلقى المسؤولون اللبنانيون -وعلى رأسهم رئيس الحكومة- تحذيرات قانونيّة جديّة، لجهة المخاطر التي ستحدق بأصول مصرف لبنان في الخارج، في حال سير الحكومة بمشروع تحميل خسائر المصارف للدولة اللبنانيّة.

لذلك، يغرق اللوبي المصرفي حتّى اللحظة في الوهم، حين يعتقد أنّه بات قاب قوسين أو أدنى من تحقيق جميع أهدافه، عبر إقرار التعديلات التي يريدها على مشروع إعادة الهيكلة. كما يغرق في الوهم نفسه المسؤولون اللبنانيون، الذين يتداولون الأنباء عن “مرونة” صندوق النقد المستجدة، أو إمكانيّة تعديل مسودّة مشروع قانون إعادة الهيكلة من دون الإصلاحات التي طلبها الصندوق سابقًا.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةالقروض السكنية تبدأ مطلع حزيران: هل من شروط تعجيزية؟
المقالة القادمة42% من اللبنانيين يعانون من انعدام كبير في أمنهم الغذائي