في ظلّ نظام إقتصادي حرّ يكفله الدستور، شهد لبنان على مرّ السنين نتائج في ميزان المدفوعات، تعكس تماماً حقيقة دوره في المنطقة، من حيث اجتذاب الرساميل والتوظيفات والاستثمار العقاري والسياحة ومختلف الخدمات التجارية والسياحية، التي تمثّل أعلى مساهمة في ناتجه المحلي… ومجرد تبدّل رصيد ميزان المدفوعات من إيجابي (فائض) الى سلبي (عجز)، كان الاشارة الرئيسية الى بداية انفجار الأزمة الاقتصادية التي تصاعدت مؤشراتها منذ العام 2011 ليضع إنفجارها عام 2019 علامة إستفهام حول دور لبنان الاقتصادي نفسه، ويعيد طرح السؤال حول القطاعات الركيزة للبنان، والتي تؤمّن الحدّ الأدنى من أمنه الغذائي ومن مردوده المالي ومن مستقبله من جميع النواحي… ولكن، هل الخلل في ميزان المدفوعات يُعالج بإعادة النظر بمكوناته أم بسبل إعادتها الى مسارها الإيجابي؟ كيف يمكن قراءة مكوّنات ميزان المدفوعات؟
يتشكّل ميزان المدفوعات بشكل رئيسي من الميزان التجاري وميزان الرساميل. ومن المعروف تاريخياً أنّ كل فائض في ميزان المدفوعات يكون ناتجاً من فائض كبير في ميزان الرساميل، يتمكّن من التعويض بفائض أكبر من عجز الميزان التجاري، الذي لطالما عرف تاريخياً تراكم عجوزات في لبنان الذي يفوق استيراده أضعاف صادراته، نظراً لأسباب بنيوية استراتيجية وليس لعوائق ظرفية قابلة للتبدّل بسهولة.
علماً أنّ ميزان المدفوعات يعكس الفارق بين مجموع الاستيراد ومجموع التصدير، فيما ميزان الرساميل يعكس، كما يدلّ إسمه، الفرق بين حركة دخول وخروج الرساميل، والتي تتنوّع مصادرها بين أموال يرسلها لبنانيون من الخارج الى ذويهم ويوظّفها المغتربون والأجانب في لبنان على شكل ودائع مصرفية أو غيرها، واستقطاب للاستثمار الأجنبي والاغترابي في العقارات وسائر القطاعات، وأموال تدخل بفضل السياحة بشكل أساسي، وغالباً ما يُعوّل عليها وعلى تفوّقها على حركة خروج الرساميل في لبنان لتسيل فائضاً كبيراً في ميزان الرساميل، من شأنها التعويض عن عجز الميزان التجاري الناتج من كثافة الاستيراد من جهة وضعف التصدير من جهة أخرى. وتعزّز حركة الرساميل طبيعة النظام الاقتصادي اللبناني الحر الذي يسمح بحرّية الربح وتحويل الأموال وحركتها الى الخارج، والسرية المصرفية التي تميّز لبنان في المنطقة وتجتذب الودائع نحوه.
ومن أبرز العوامل التي أدّت الى هذا العجز المتزايد في الميزان التجاري، هو أنّ لبنان بلد مستهلك من الدرجة الاولى، وحاجة استهلاكه الى السلع المستوردة في تزايد مستمر، بفعل ارتفاع القوة الشرائية لدى السكان، وخصوصاً في الفترة التي كانت فيها عملته «مدعومة» عبر ربطها بالدولار ( 1507.5) منذ العام 1997، ولكون لبنان بلد سياحة وخدمات يزوره، الاجانب بأعداد كبيرة ويزيدون من استهلاك مختلف الماركات العالمية، ليمثّل الاستيراد أكثر من 80 % من الاستهلاك في لبنان.
كذلك يبرز ضعف قدرة لبنان على التصدير. إذ على الرغم من التوسع الكبير الذي حصل في السنوات الاخيرة في ميدان الانتاج الصناعي والزراعي، وبالرغم من الزيادة الملحوظة في حجم الصادرات اللبنانية الى الخارج ، فإنّ العناصر والامكانات الانتاجية المتوفرة في لبنان لا تزال ضعيفة لأسباب عدة، لاسيما نظراً للحاجة الى استيراد المواد الأولية للمنتوجات الصناعية ومختلف التجهيزات وصولاً الى التغليف. كما لارتفاع كلفة عناصر الانتاج من كلفة الرأسمال، أي معدّل الفائدة على كلفة الأجور، كذلك بسبب ضيق السوق اللبناني وصعوبة تحقيق ما يُعرَف في عالم الاقتصاد بـ«إقتصاد الكم» الذي يقلّص كلفة الوحدة المنتجة كلما زاد عدد الوحدات المنتجة. كما هناك مشكلة تأمين المياه الكافية لجميع المناطق وضعف شبكات الري، وطبعاً بشكل أساسي أزمة قطاع الكهرباء، وكل ما ينتج منها من عراقيل انتاجية وتكاليف مولدات وانعكاسات على سائر القطاعات، فضلاً عن ارتفاع كلفة الاتصالات وضعف الانترنت، كما ضعف كل البنى التحتية والخدمات في المناطق… فصادراتنا محصورة بأكثرها بالفاكهة والحمضيات التي تشكّل نسبة لافتة من مجموع صادرات لبنان، اضافة الى القليل من المنتجات الصناعية المحلية… وطبعاً طفرة المبادرات الزراعية الحديثة لإعادة الناس الى الأرض، وأهمية التنمية المستدامة والحرص على حسن الاستفادة من الموارد الطبيعية على أهميته، لا يمكن أن يشكّل رافعة للاقتصاد اللبناني بالمعنى الفعلي ولا عموداً فقرياً جديداً بديلاً من الدور التاريخي للاقتصاد اللبناني الخدماتي، السياحي، المالي، العلمي، والثقافي، نظراً لكل العوائق البنيوية في طبيعته، والتي لا تُعالج بمبادرات «تشجيعية»، «معنوية» و«وجدانية».. فالزراعة والصناعة تحتاجان مقومات وبنى تحتية ومواد أولية.. فيما اللبناني لا يزال يبحث عن شراء الشموع نتيجة التقنين المزدوج لكهرباء الدولة والمولّد الخاص، اذا توفّر المازوت لهذا الأخير! ومع انقطاع الكهرباء يغيب ضخ المياه في حال توفّرها، ومع غياب المازوت اضافة الى الكهرباء، تُطرح علامات استفهام حول استمرارية الانترنت؟ فأي زراعة وأي صناعة نشجّعهما؟!
وأكثر من ذلك، ومع التكاليف الخدماتية الاضافية، يُضاف استيراد المواد الأولية للصناعة والمبيدات وسواها للزراعة. فيصبح في نهاية المطاف سعر المنتج اللبناني يضاهي سعر المنتج المستورد في السوق..! فعلاً يتم الاعتماد على تعزيز القدرة التنافسية للمنتجات اللبنانية!؟؟ وكيف يمكنها في هذه الحال ان تشكّل رافعة للاقتصاد وتسمح مثلاً بإدخال دولارات تغطي أقله استيراد الدواء والتجهيزات الطبية، للتخفيف عن احتياطي المصرف المركزي المستنزف يومياً، قبل انبثاق فجر حلول جذرية؟؟
على خط موازٍ، وحتى قبل اتخاذ الإجراءات المكبّلة لحركة الرساميل، كان لبنان يعاني في السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ العام 2011 ، من انقلاب وضع ميزان المدفوعات وتحوّله الى سلبي بشكل مستمر، مع تراجع ميزان الرساميل وعدم إمكانية التعويض عن العجز الهائل في الميزان التجاري، الذي تخطّى سنوياً 17 مليار دولار أميركي. وقد سجّل ميزان المدفوعات عجزاً في نهاية 2019 بقيمة 4351 مليون دولار، ليصبح العجز التراكمي منذ 2011 إلى اليوم ما قيمته 14515.9 مليون دولار (باستثناء عام 2016 الذي لم يسجّل عجزاً بسبب هندسات مصرف لبنان المالية التي استقطبت من خلالها المصارف اللبنانية المشاركة، رساميل من الخارج بالعملات الاجنبية لشراء اليوروبوند…).
إلّا أنّ انفجار الأزمة ومحدودية الاحتياطي بالعملات الأجنبية وأولويات استخدامه بين تلبية استحقاقات داهمة بالدولار الأميركي، قبل بتّ إعادة هيكلة الدين العام وتمويل استيراد مواد أساسية من قمح ودواء ولوازم طبية ومشتقات نفطية، في ظلّ تزايد الطلب على الدولار في السوق، جمّد إمكانية الصرف في القطاع المصرفي، الذي ابقى على السعر الرسمي 1507.5 دون امكانية التحويل في المصارف ولا التحويل الى الخارج، حتى تضاعف الطلب على الدولار لدى الصرافين، وأفلت السوق من امكانية ضبطه، فظهر سعر موازٍ للدولار أعلى من السعر الرسمي، فتهاوى معه الهدف الأساسي للمصرف المركزي المتمثّل بحماية القدرة الشرائية والاستقرار النقدي من تقلّبات سعر الصرف وموجات التضخم، لاسيما التضخّم المستورد الناتج من ارتفاع أسعار المنتجات المستوردة والتي أكثريتها المنتجات الاستهلاكية.
وفي ظلّ تزايد الطلب على الدولار في السوق، تمّ تجميد إمكانية التبادل في القطاع المصرفي، الذي حافظ على السعر الرسمي 1507.5 دون إمكانية التحويل في السوق إلى الخارج، حتى تضاعف الطلب على الدولار عند الصرافين وفلت السوق من إمكانية السيطرة عليه. مع العلم أنّ سعر الدولار الموازي ظهر في سوق الصرافة أعلى من السعر الرسمي، بحيث انهار الهدف الرئيسي للبنك المركزي لحماية القوة الشرائية والاستقرار النقدي من التقلبات في أسعار الصرف وموجات التضخم، وخصوصاً «التضخم المستورد» الناتج من ارتفاع أسعار المنتجات المستوردة، في ظل دولرة تخطت 76 % من مجموع الودائع.
ويُلاحظ، أنّه منذ عام 1993 بدأت فجوة النمو بين ودائع العملات الأجنبية والموجودات الخارجية للنظام المصرفي في الاتساع تدريجيًا..بمجرد أنّ الدولار الأميركي لا يُستخدم فقط للدفع مقابل الواردات، فإنّ مبلغ ودائع العملات الأجنبية لم يعد يساوي تمامًا كمية الموجودات بالعملة الأجنبية. هناك عاملان آخران يلعبان دوراً في توسيع الفجوة بين الودائع والأصول الأجنبية: التحويل المستمر من الليرة اللبنانية إلى الدولار ألاميركي ومنح المصارف تسليفات بالدولار من شأنها أن تزيد خلق النقد، فضلاً عن استخدام الدولار كأداة للدفع والتسوية للمعاملات المحلية.
ومع ذلك، طالما كان ميزان المدفوعات في مسار تصاعدي، ظلت فجوة النمو بين ودائع العملات الأجنبية والموجودات الخارجية للنظام المصرفي مضبوطة، وبالتالي انخفضت نسبة الودائع إلى الأصول الخارجية من 1.7 عام 1997 إلى 2.0 في نهاية 2011.
منذ ذلك الحين، مع بداية تداعيات الأزمة السورية على الاقتصاد اللبناني ومجمل التغيّرات في المشهد اللبناني واهتزاز الاستقرار، وظهور عجز في ميزان المدفوعات وزيادة غير طبيعية في ودائع العملات الأجنبية، التي ارتفعت نسبتها بشكل كبير لتصل إلى 3.5 في نهاية عام 2016 ؛ 4.2 نهاية عام 2017 ؛ 5.3 في نهاية 2018 ؛ وأخيرًا 7.3 في نهاية عام 2019. مع هذا المستوى من الاختلاف وفي سياق الأزمة ، يبدو جلياً أنّ الموجودات الخارجية للمصارف لم تعد كافية لتلبية طلبات العملاء لسحب الودائع، خصوصاً وأنّ مصرف لبنان لا يستطيع طباعة الدولار لتزويد المصارف بها والاستجابة لطلبات السوق.
وبذلك يتبيّن، أنّ ميزان المدفوعات له دلالات كبرى وأساسية في مسار الاقتصاد الوطني، وله عمقه البنيوي المتّصل بطبيعة وخصوصية الاقتصاد اللبناني، التي لا يمكن نسفها وإعادة تكوينها من جديد، خصوصاً في غياب الرؤيا والامكانيات لذلك، وبمجرّد «ردة فعل» لتشجيع الناس على الصمود بمبادرات فردية زراعية و صناعية مطلوبة، دون تأمين الحد الأدنى مما نادى وينادي به المزارعون والصناعيون منذ سنوات.
لكل إقتصاد هوية ومرتكزات ودور يُبنى على أساسها، وتميّزه عن غيره وتُعقد على أساسه الشراكات والاتفاقات التبادلية والتكاملية. فالاقتصاد لا يُبنى بـ»ضربيات» تكتيكية، بل برؤيا استراتيجة شاملة. وفي غياب الرؤيا الجديدة المتكاملة للنموذج الجديد، حان الوقت للوعي لضرورة العمل لإنقاذ النموذج الأساسي بإعادة الثقة لإعادة استقطاب الرساميل والاستثمارات والسياح، مع رسم خارطة واضحة للزراعة والصناعة تستند الى مطالب أرباب القطاع ولا تكون مُنزلة عليهم دون أي مقوّمات!